[«☸»] « الخطابة » [«☸»]
الخطابة oratory, la rhétorique هي فن مخاطبة الجمهور شفاهاً أو كتابة، بغية إقناعه واستمالته إلى فكرة من الأفكار أو موقف من المواقف، فهي إذن تقتضي خطيباً وخطاباً وجمهوراً. والخطيب هو مَن يندب نفسه ليلقي في الناس كلاماً يتوخى أن يكون بليغاً ومؤثراً، ليحقق من ورائه غاية من الغايات. وقد اتخذت الخطابة قديماً أشكالاً، فكانت بلاغ الأنبياء إلى أممهم، ومهماز القادة لدفع جنودهم للاستبسال في المعارك، وقوة سحرية يقود بها السياسيون شعوبهم، ولسان حال الأحزاب السياسية والعقائدية لنشر دعواتهم، ومرافعة المحامين أمام القضاء لإحقاق الحق، وإرساء العدل.
وكان للخطابة قديماً شأن في بلاد اليونان والرومان، وكانت تجري في الهواء الطلق، وعدت جزءاً من البلاغة. وقد ألف أرسطو[ر] كتاباً بعنوان «الخطابة» بوصفها جزءاً من المنطق في نظره، ولكنها في المفهوم العربي غير ذلك. وازدهر فن الخطابة في القديم لانعدام وجود قوانين مكتوبة أو كتب مخطوطة أو مطبوعة. وبعد ظهور المجالس النيابية ظهر خطباء كبار في عالم السياسة. وخفف اختراع الراديو والتلفاز من مكانة الخطيب الذي كان يواجه الجمهور وجهاً لوجه، وذلك لصالح التحدث إلى الجماعة التي راحت في هذه الآونة تجلس في منازلها ناظرة إلى الشاشة الصغيرة.
شهدت حياة العرب في الجاهلية الحرب، والصلح، والمنافرات والمفاخرات، ومواسم الحج، والوفادة على الملوك، والمناسبات الاجتماعية، فكان يقف في الناس رجال فطروا على الفصاحة والبلاغة، وحضور البديهة، وذلاقة اللسان، وسلامة النطق، وجهارة الصوت، وثبات القلب أمام الناس، ويخطبون فيصغى لهم.
وكان من عادة الخطيب الجاهلي أن يعتني بهيئته، فيحسن التعمم والعمائم تيجان العرب، ويمسك بيده ما يتكئ عليه ويشير به، من عصا أو رمح أو قوس، ويقف في مكان مشرف على الناس؛ فيستحوذ بذلك على القلوب. ومن أولئك الخطباء: هاشم بن عبد مناف، وابن عبد المطلب، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وابنه حرب، القرشيون، وسعد بن الربيع، وقيس بن شماس، الخزرجيان، وسعد بن معاذ الأوسي، وأكثم بن صيفي، وحمزة بن حمزة، وقيس بن عاصم، التميميون، وقس بن ساعدة الإيادي، وهانىء بن قبيصة اليشكري البكري، وعامر بن الظرب العدواني، وقد عاش بعضهم إلى ما بعد الإسلام. وخطبهم التي وصلت قليلة، منها قول هانىء بن قبيصة المشهور في وقعة ذي قار بينهم وبين الفرس، يحرض قومه: «يا معشر بكر! هالك معذور، خير من ناج فرور؛ إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر؛ المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، والطعن في النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر، قاتلوا! فما للمنايا من بد!!...». ويلاحظ في هذه الخطبة ومعظم ما وصل من خطبهم أنها قصيرة في الغالب، وقلما طالت، والسجع غالب عليها، وتتفاوت كثرته بين خطبة وخطبة، وعباراتها قصيرة متوازنة؛ وكل ذلك يعطي الخطبة جمالاً موسيقياً يجعلها تؤثر في الناس، وربما لجأ بعضهم إلى الاستعانة بالشعر في أواخر خطبهم، كقول قس بن ساعدة في آخر خطبته في موسم الحج:
لمّا رأيتُ موارداً
للموتِ ليس لها مصادر
ورأيتُ قومي نحوَها
يمضي الأكابر والأصاغِر
لا يرجع الماضي إليّ ولا
يبقى من الباقين غابر
أيقنتُ أني لامَحَا
لَة حيثُ صار القوم صائرْ
وأما المعاني فالغالب على الخطب أن يكون لها موضوع واحد، وأن تكون واضحة بعيدة عن التعقيد، تبدأ بالنداء ونحوه مما يستدعي الإصغاء، وتنتهي بعبارة موجزة جامعة، ويكون الإنشاء، من أمر ونهي ونداء واستفهام وتمن وتعجب، أكثر من الخبر، وهو مما يبقي المستمعين مشدودين إلى الخطب، لأن الإنشاء يستدعي المشاركة، كما أن الخبر في خطبهم تكثر فيه أساليب التوكيد التي تقويها وتجملها؛ فكانت خطبهم بذلك كله أشبه بالثياب الموشاة كما يصفونها في أشعارهم.
توافر للخطابة بعد الإسلام أسباب أدت إلى ازدهار هذا الفن، منها أن الخطابة كانت أهم وسائل النبي r، لدعوته إلى الإسلام وتوضيح عقيدته وشرائعه وحدوده ومعاملاته ونظمه، إلى جانب ما رفدهم به القرآن الكريم والحديث النبوي، وما ورثوه من آداب الجاهلية، وهي مصادر ثرة للمعاني التي يطرقها الخطباء
ولهذا ظهرت موضوعات لم يسبق أن عرفها العرب في الجاهلية، وتكاثرت موضوعات عرفوها في مناسبات قليلة، فكانت خطب المواعظ والتشريع لخطبة الجمعة والحج والأعياد، وما فيها من توجيه ديني، وخطب الجهاد وما فيها من تحميس للجند وحض على التضحية والصبر في مواجهة العدو، وخطب الخلفاء والولاة السياسية التي تمثل طريقة الحكم والإدارة التي يسيرون عليها. ويلاحظ في خطب الرسول r وفي غيرها من خطب صدر الإسلام، مثل خطب الخلفاء الأربعة الراشدين، والولاة، وقادة الجيوش، وسادات القبائل المشاركون في الفتوح، أن معانيها واضحة، وفيها من العمق الفكري ما لم يكن في خطب الجاهلية، وهي متأثرة بالروح الإسلامي العام، وتتفاوت في طولها بحسب المناسبة، وإن كان الغالب عليها الإيجاز والقصر، غير أنها أطول من خطب الجاهلية؛ وقد ابتعد كثير منها عن تكلف السجع والصنعة اللفظية، فكانت تأتي عفواً، وكثر الاقتباس من القرآن الكريم، وربما تمثلوا بالشعر الموروث. ولم يكن بدّ في الخطب الدينية من أن تبدأ بحمد الله والثناء عليه، وأن تنتهي بالدعاء.
وفي عصر بني أمية اتسعت الدولة وازدادت مواردها، وتشعبت الحياة واختلط العرب بغيرهم، وظهر التحزب والخلاف والجدل، وتعمق الناس في رواية التراث الجاهلي، وحفظ القرآن الكريم وأحاديث النبي r وخطبه وخطب الخلفاء، فظهرت خطب المتحزبين والمخالفين، إلى جانب خطب الجمعة والأعياد والحج والوعظ والجهاد. وكان أبرز الخطباء معاوية بن أبي سفيان، وزياد بن أبيه، وعبد الملك ابن مروان، والحجاج بن يوسف، والحسن والحسين ابنا علي، وعبد الله ومصعب ابنا الزبير، وقطري ابن الفجاءة وأبو حمزة الشاري وهما من الشراة (الخوارج).
وأهم ما يلفت النظر في خطب العصر الأموي كثرة الاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي، ولاسيما في خطب الجمعة والمواعظ وخطب الخوارج، وكثرة الاستشهاد بالشعر ولاسيما في الخطب السياسية، وعادت العناية بازدواج العبارات والسجع والإنشاء في عدد من الخطب ولاسيما في مواطن الشدة والانفعال، إلى جانب التصوير واللجوء إلى الخيال، وكذلك بالمقابلات والطباق في كثير من خطب الوعظ. ولعل خطب عبد الملك بن مروان في أهل الكوفة بعد القضاء على مصعب بن الزبير، تكون مثالاً على بعض خصائص الخطبة في العصر الأموي، وقد قال فيها بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس! إن الحرب صعبة مُرّة، وإن السلم أمن ومَسَرَّة، وقد زبنتنا الحرب وزبناها، فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا، وأيها الناس! فاستقيموا على سبيل الهدى، ودعوا الأهواء المردية، وتجنبوا فراق جماعة المسلمين، ولا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تعملون أعمالهم...، وإنما مثلي ومثلكم كما قال قيس بن رفاعة:
مَنْ يَصْلَ ناري بلا ذنبٍ ولا تِرةٍ
يَصْلَ بنار كريم غير غدارِ
أنا النذيرُ لكُمْ منّي مُجاهرَةً
كي لا أُلامَ على نهيٍ وإنذارِ
فاستشهد بسبعة أبيات. ويمكن القول إن العناية بالجوانب الفنية الشكلية في خطب العصر الأموي تفوق العناية بها في خطب صدر الإسلام، لما عرف عن خلفاء بني أمية من عناية بالأدب وروايته، على أن خطب صدر الإسلام كانت أقرب إلى السجية في بعدها عن التكلف.
اختلفت حال الخطابة في العصر العباسي وما بعده عما كانت عليه من قبل،إذ اختفت خطب الوفود لانصراف رؤساء القبائل عن الوفادة على الخلفاء، وكذلك خطب الجهاد لتوقف الفتوح وكثرة الفتن الداخلية،وضعفت الخطابة السياسية بعد نحو خمسين سنة شهدت خلفاء خطباء كالسفاح والمنصور والرشيد، إذ وكّل الخلفاء غيرهم بخطب الجمعة والأعياد، ولهذا حافظت الخطابة الدينية على مكانتها التي عرفتها منذ صدر الإسلام.
ميّز الدارسون خمسة أنواع من الخطب، هي:
أولاً: الخطبة السياسية، وهي من أصعب الفنون. وهدفها تحريك الأمة نحو أهدافها، أو الحشد الفكري والعقائدي للجماعة السياسية التي ينتمي إليها الخطيب، أو تفنيد حجج الخصوم والأعداء، أو الدفاع عن المواقف والقرارات.
ثانياً: الخطبة العسكرية، والغاية منها إنهاض همم الجنود للقتال وإذكاء روح الحماسة وإثارة النخوة والإقدام وتهوين الموت وتجميل التضحية وتزيين النصر. ومن أمثلتها خطبة طارق بن زياد في جنده بعد أن أحرق سفنه في فتح الأندلس «أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر». وما قاله أحد قادة الفاندال: «أيها الجنود، أنا إن تقدمت فاتبعوني، وان أحجمت فاقتلوني، وإن قتلت فاثأروا لي».
ثالثاً: الخطبة الدينية، وقد ازدهرت هذه الخطب في الكنائس أولاً. أما في الإسلام فقد ازدهرت الخطابة في المساجد وحلقات الدين. واشتهرت خطبتان إسلاميتان منذ القديم حتى الزمن الحاضر، وهما خطبة الجمعة وخطبة العيدين. وتتميز الخطب الدينية الإسلامية بأنها دعوات لتهذيب النفوس وغرس مكارم الأخلاق وتحذير من البغي والظلم ونهي عن المنكر وأمر بالمعروف، إضافة إلى عنايتها الفائقة بشرح أحكام القرآن وآداب السنة وتثقيف الناس بتاريخ الإسلام وتعريفهم بمآثره.
رابعاً: الخطبة القضائية، ومن شروطها سعة الاطلاع والتبحر بعلم القانون والذهن المتوقد والبصيرة النافذة.
خامساً: الخطبة العلمية، وهي كلام علمي لا يستذرف دموعاً ولا يثير عاطفة. ويدخل في هذا النوع أحاديث الأندية والمحاضرات.
ويلحق بهذه الخطب خطب التأبين، وهي الكلام الذي يقال عند موت رجل عظيم أو شخص نابه. وفي هذا اللون يتفجع الخطيب على الراحل ويبرز مزاياه ويعزي ذويه ويطلب له الرحمة والغفران.
ومهما يكن من أمر فإن الخطابة فن قديم وحديث لم تنقطع العناية به البتة، في مختلف العصور والأمصار، ولكنه تطور تدريجياً واتخذ ألواناً مختلفة.
ومن أشهر خطباء الـسياسـة: ديموسثينِس[ر] وشيشرون[ر] قديماً، وميرابو[ر] وروبسبيير[ر] ونابليون بونابرت[ر] في زمن الثورة الفرنسية، ووليم بت[ر] الأب ثم الابن ودزرائيلي[ر] وونـستون تشرشل[ر] في إنكلترة، ومارتن لوثر كنغ[ر] في الولايات المتحدة، ومصطفى كامل[ر] وسعد زغلول[ر] في تاريخ مصر الحديث. ومن الخطباء العسكريين خالد بن الوليد[ر] وسعد بن أبي وقاص[ر]. ومن خطباء الكنيسة يوحنا فم الذهب وتوما الأكويني[ر].