⋐[☼]⋑ الأمن الجماعي ⋐[☼]⋑
يهدف نظام الأمن الجماعي collective security الذي بدأ تطبيقه في العلاقات الدولية مع قيام عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، إلى الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي أو الإخلال بعلاقاته أو أوضاعه على نحو غير مشروع، وذلك بتنفيذ تدابير دولية جماعية تكون قوة ضاغطة ومضادة لمحاولات ذلك التغيير. ونظام الأمن الجماعي لا يلغي التناقضات القائمة بين مصالح الدول أو سياساتها وإنما يستنكر العنف المسلح أداة لحلها ويركز بدلاً من ذلك على الوسائل السلمية. ومن التصور المبكر لفكرة الأمن الجماعي ما جاء في سورة المائدة من القرآن الكريم: )مَنْ قَتَل نَفْساً بِغير نَفْسٍ أَو فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً( (المائدة 32) والأمن الجماعي في الواقع العملي يرتبط بوجود التنظيم الدولي الذي تكامل في عصبة الأمم ثم في الأمم المتحدة.
وتتمثل فكرة الأمن الجماعي في أن إحباط العدوان[ر] أو ردعه في المجتمع الدولي، لا يمكن تحقيقه بالاحتكام إلى المنطق أو الأخلاقيات الدولية وإنما يكون بمواجهة العدوان بقوى متفوقة عليه. فهذا التفوق هو الذي يحقق من الآثار الرادعة ما يضمن استقرار الوضع الدولي القائم. وعلى هذا، فإن نظام الأمن الجماعي يقوم على ردع العدوان أياً كانت مصادره، وأياً كانت القوى التي يتحرك في إطارها، وبذلك فهو لا يستهدف مصادر محددة بذاتها ولا تعيين بعض الأطراف من دون بعضها الآخر وإنما يطبق هذه التدابير العقابية في مواجهة أي دولة تلجأ إلى استخدام القوة استخداماً غير مشروع في تعاملها مع غيرها من الدول.
ومفهوم السلام الدولي، في ظل نظام الأمن الجماعي، هو مجموعة القيم التي لا تقبل التجزئة أو المساومة؛ لأن تجزئتها تقود إلى أوضاع من التمييز أو المحاباة لا تخلو من الثغرات مما يسهل للعدوان تحقيق أهدافه من دون مقاومة فعالة. بمعنى آخر فإن العدوان على أي دولة بعيدة كانت أو قريبة، كبيرة أو صغيرة، ضعيفة أو قوية، لا بد من أن يقابل بالقوة الجماعية للمجتمع الدولي كله.
ومن العناصر الجذابة في فكرة الأمن الجماعي أن تطبيقه الفعال يلغي، أو على الأقل يضعف كثيراً احتمالات استخدام العنف المسلح في التعامل الدولي، ذلك أن مجرد التهديد باستخدام قوة المجتمع الدولي، عسكرية كانت أو غير ذلك، إزاء أي دولة تفكر في اقتراف العدوان، سيجعلها تحجم عن الدخول في مخاطرات تعلم مقدماً أنها ستكون الخاسرة من ورائها.
وبوجه عام يمكن إدراج أهم الافتراضات التي تبنى عليها نظرية الأمن الجماعي فيما يلي:
ـ إنه في حالة نشوب صراع مسلح يجب أن يحدث اتفاق دولي على تحديد الطرف المعتدي في هذا الصراع، كما أن هذا الاتفاق لا بد من أن يحدث فوراً، إذ إن اتخاذ إجراء جماعي وسريع يعدّ شرطاً لا معدى عنه لتصفية العدوان قبل أن يتسع نطاقه ويصبح من المتعذر احتواؤه أو إلغاء آثاره الدولية.
ـ يجمع الدول كلها هدف واحد هو ردع العدوان أياً كان مصدره، بمعنى أن مقاومة العدوان تصبح واجباً محتماً على كل الدول بغض النظر عن المصالح المادية أو صلات الصداقة التي تربط بين المعتدي وأي من هذه الدول.
ـ إن كل دولة تتمتع بالقدر نفسه من الحرية والمرونة الذي يتيح لها المشاركة في التدابير الدولية الجماعية المنفذة في وجه المعتدي.
ـ إن الإمكانات الجماعية للدول التي تشارك في تحمل مسؤولية تنفيذ هذه التدابير المشتركة ستكون على قدر من الضخامة والتفوق يجعلها قادرة على رد العدوان وهزيمته.
ـ وإن إدراك الدولة المعتدية أنها لا تستطيع أن تقاوم قوة أكبر منها سيجعلها ترتدع عن القيام بمغامرات تعلم سلفاً أنها لن تعود عليها إلا بهزيمة محققة.
لكن التطبيق الفعلي لنظرية الأمن الجماعي لم يرتقِ بها إلى مستوى أهدافها. فضعف الإمكانات الدولية التي توافرت لعصبة الأمم لم يسعفها في إنجاح هذه النظرية. وكان هذا الإخفاق حافزاً لبعض القوى الكبرى للتمادي في اقتراف العدوان، مما دفع بالعالم إلى حرب عالمية جديدة. وتكررت محاولة تطبيق نظام الأمن الجماعي في ظل الأمم المتحدة على أساس تلافي ثغرات عهد العصبة وممارساتها. وجعل ميثاق الأمم المتحدة من مبادئها «أن يمتنع أعضاء المنظمة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها فعلاً ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة». وأن «يقدم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من عون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق كما يمتنعون عن مساعدة أي دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها عملاً من أعمال المنع أو القمع». وأسند الميثاق إلى مجلس الأمن مسؤولية تقرير طبيعة الإجراءات الدولية الجماعية التي يتعين تطبيقها في مواجهة العدوان وبموجب الميثاق يعود إلى هذا المجلس، نيابة عن الأمم المتحدة كلها، تقرير ما إذا كان قد وقع ما يهدد السلام أو يخلّ به أو يعدّ عملاً من أعمال العدوان. وله في ذلك، نظرياً، سلطة تقديرية واسعة. ولكن يجوز لمجلس الأمن قبل أن يفعل ذلك ومنعاً لتفاقم الموقف أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة كوقف إطلاق النار وانسحاب المتقاتلين إلى مواقعهم قبل اندلاع القتال. فإذا قرر المجلس أن ما وقع يهدد السلم أو يخل به أو يعدّ عملاً عدوانياً جاز له اتخاذ تدابير الأمن الجماعي وهي على نوعين:
ـ تدابير قسرية: لا تصل إلى حد استعمال القوة وتشتمل على وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية والسلكية واللاسلكية وغيرها مع الدول المعتدية كلياً أو جزئياً، وكذلك قطع العلاقات كافة مع هذه الدول كلياً أو جزئياً.
ـ تدابير عسكرية: إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير السابقة لم تف بالغرض، أو وجدها غير كافية، جاز له أن يتخذ، بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية، ما يلزم من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال استعراض القوة والحصار والعمليات الأخرى الجوية والبرية والبحرية. وللمجلس في ذلك أن يسخِّر المنظمات الدولية الإقليمية ( مثل جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الأمريكية ) لمساعدته. وقد نَصَّ الميثاق على أن يضع أعضاء الأمم المتحدة، تحت تصرف المجلس، وبناء على طلبه، ما يلزم من القوات المسلحة والتسهيلات الضرورية في سبيل الإسهام في تطبيق الأمن الجماعي. كما نص على ضرورة توزيع هذه القوات والمساعدات والتسهيلات في شتى بقاع الأرض ليستطيع المجلس، بمشورة لجنة أركان الحرب التابعة له، أن يحركها بالسرعة والكفاية اللازمتين لردع العدوان وقمعه.
وقد طبقت نظرية الأمن الجماعي بمفهومها المعروف مرة واحدة في الأزمة الكورية في مطلع الخمسينات. ومع يُتْم هذه المحاولة لم يسلم سلوك الأمم المتحدة من النقد دستورياً وسياسياً. كما استخدمت قوات الأمم المتحدة في الأزمة الكونغولية في الستينات بصورة مبتسرة ومثيرة لجدل أكبر. وعلى هذا يمكن القول إن نجاح الأمم المتحدة ممثلة بمجلس أمنها كان متواضعاً جداً قياساً بالحالات التي كان عليه التدخل فيها إعمالاً لنظرية الأمن الجماعي. وقد تمثلت الصعوبات التي حالت دون تنفيذ هذه النظرية على النحو المطلوب في الأمور التالية بوجه خاص:
ـ انقسام العالم إلى كتلتين دوليتين متصارعتين في أعقاب الحرب العالمية الثانية مما وقف حائلاً دون الاتفاق على تدابير دولية مشتركة يمكن بوساطتها ردع العدوان وتصفيته. ثم إن نظام القطبية الثنائية bipolarization جعل من المستحيل أن تمارس دولة العدوان منعزلة عن دعم أحد القطبين. بل قد يكون المعتدي ذاته أحد القطبين، (فييتنام مثلاً) مما يجعل من غير المجدي تطبيق نظام الأمن الجماعي، إذ كيف يمكن مواجهة دولة كالولايات المتحدة، حتى لو وقفت دول العالم كله في مواجهتها، في ظل أوضاع عسكرية واقتصادية تلقي ظلالاً من الشك على إمكان هزيمتها. هذا إذا تمكن مجلس الأمن من التصرف أصلاً وفق أحكام الأمن الجماعي، وهو الذي يعيش أسير حق النقض (الفيتو).
ـ إن اختلال المقاييس التي تطبقها الدول في تعريف العدوان - وهو اختلاف ناتج عن تفاوت المعتقدات السياسية وظهور الكتلتين - يجعل التوصل إلى اتفاق دولي قاطع حول مصدر العدوان تمهيداً لإدانته ومعاقبته صعباً. فالمظهر الرئيسي للعدوان قبل نشوب الحرب الباردة كان ينحصر في الغزو العسكري الذي تمارسه دولة حيال أخرى. أما اليوم فالعدوان قد يتنوع وقد يأخذ الكثير من المظاهر المباشرة وغير المباشرة مثل التخريب بالإعلام وبالعقائد المضادة والتحريض السياسي والضغط الاقتصادي وغيرها. وهي أمور تفسح في المجال لاختلاف الدول حول تحديد الطبيعة العدوانية لكل واحد من هذه التصرفات، وكذلك حول نوعية الإجراءات الدولية المشتركة التي تتناسب مع كل منها. ولم يفلح تعريف العدوان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها 3314 لعام 1974 في حسم هذا الموضوع.
ـ إن الحرب التي قام نظام الأمن الجماعي في الأصل على مواجهتها وردع أطرافها هي تلك الحرب التي تدخل في إطار المواصفات التقليدية القديمة. أما وقد تغيرت طبيعة هذه الحروب التقليدية تماماً بسبب التطورات التقنية المتلاحقة، فإنه يصبح من غير المتصور أن يكون لنظام الأمن الجماعي الذي تطبقه الأمم المتحدة أي آثار رادعة فعالة في التصرفات العدوانية التي تقوم بها إحدى القوى النووية. كما أن التطور المذهل في أساليب الهجوم المفاجئ يجعل من المتعذر أن تتجمع الدول في نطاق تحالف عالمي عريض لمعاقبة المعتدي وردع عدوانه مباشرة.
ولا غرابة، والحالة هذه، في أن تتقزم نظرية الأمن الجماعي لتصبح ما أسماه داغ همرشولد (أمين عام سابق للأمم المتحدة) نظرية دبلوماسية الردع preventive diplomacy وخلاصتها مجرد إيقاف القتال بين المتحاربين ووضع قوات دولية بينهما على أنها منطقة عازلة يعدّ تجاوزها تجاوزاً أدبياً للمجتمع الدولي، حتى يحل النزاع الذي أدى إلى الحرب أساساً بإحدى الطرق السلمية لحل النزاعات الدولية، على افتراض أن الزمن حلاّل المسائل المستعصية. وهذا ما بدأ حين وضعت قوات الطوارئ الدولية بين مصر وإسرائيل إثر عدوان عام 1956 على مصر. وهو يتمثل اليوم في أكثر من منطقة من العالم منها قبرص ومنها خطوط وقف إطلاق النار بين سورية والعدو الصهيوني إذ تعسكر قوات الفصل والمراقبة التابعة للأمم المتحدة United Nation Disengagement and observation Forces وتسمى اختصاراً(UNDOF)في الجولان، وكذلك قوات الأمم المتحدة في جنوبي لبنان وكمبودية والسلفادور وقبرص والبوسنة وغيرها حتى وصل عدد عمليات حفظ السلام التي تنهض بها قوات تحمل راية الأمم المتحدة نيفاً وخمس عشرة عملية. وقد تعرض إعمال الأمن الجماعي عن طريق مجلس أمن الأمم المتحدة لتغيير جذري بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وحلول القطبية الأحادية محله مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتغيير أشكال الحكم وعقائده في المعسكر الذي كان يقوده. وكان من أهم الآثار الإيجابية، شكلاً على الأقل، سهولة استصدار قرارات عن مجلس الأمن إعمالاً للفصل السابع من الميثاق في غياب الفيتو. مثال ذلك السهولة التي تمت بها مباركة التحالف الدولي لتحرير الكويت عام 1991 إثر اجتياح العراق له وفق حكم المادة 15 من الميثاق (الدفاع المشروع الجماعي). لكن غياب المعارضة للدولة الوحيدة العظمى منذ مطلع التسعينات مكَّن هذه الدولة (الولايات المتحدة الأمريكية ) من تسخير مجلس الأمن باسم الأمن الجماعي للانغماس في عمليات هدفها لم يكن فعلياً تنفيذ الأمن الجماعي بقدر ما كان حماية المصالح الحيوية لواشنطن (الصومال)، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية بصمت أو مباركة من مجلس أمن الأمم المتحدة سمحت لنفسها أن تتدخل في عدد من الحالات بأسماء وصفات شتى: الأمن الجماعي تارة (غرينادة)، الدفاع الشرعي الاستباقي تارة أخرى (بنمة) كما أنها عملياً حلت محل المجلس والمنظمة الإقليمية المعنية في قيادة عمليات الأمم المتحدة بما يرضي مصالحها الحيوية (البوسنة منذ أواخر 1995).
كذلك أمكن للولايات المتحدة، من خلال قرارات استصدرتها من مجلس الأمن باسم الأمن الجماعي مخالفة أحكام ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينبغي أن يكون نبراس عمل المجلس، لأنه دستور العلاقات الدولية، من تلك القرارات ما صدر عنه بحق ليبية فيما يتعلق بحادث تفجير طائرة «البان أميركان» أو حادثة لوكربي.
إن نظام الأمن الجماعي في الأمم المتحدة يمر في عصر القطبية الأحادية باختبارات شتى: في الكيفية، وفي التطبيق، وازدواجية المعيار وغلبة المصالح الوطنية للدول الكبرى، وهي اختبارات عسيرة يمكن أن تطيح بفكرة الأمن الجماعي برمتها لمصلحة فكرة الأمن القومي للدولة العظمى وهنا مكمن خطر بيّن على النظرية كلها.