❖[♦]❖ اليمينية واليسارية الثورية ❖[♦]❖
اليمينية rightism اتجاه فكري سياسي يتسم على نحو أساسي بالنزعة المحافظة، وقد تغيرت مفاهيمه عبر تطور التاريخ السياسي، فقد كانت اليمينية التقليدية قائمة على أسس فكرية تتعلق بالتراتيبية الاجتماعية وسيطرة الأرستقراطية وأولوية المجتمع أو الدولة على الفرد والأهمية الطاغية للمقدس، ولكن فلاسفة اليمينية التقليدية يذهبون إلى أن التقليد في هذه الحالة ليس شيئاً ثابتاً ساكناً على نحو أبدي، إنما لابد من توفير التوازن له عن طريق التصويب والإصلاح.
وقد كانت اليمينية التقليدية معادية ليس فقط للتجارة بل للرأسمالية عامة، وذلك لأن التيار اليميني التقليدي كان حريصاً على التضامن العضوي في المجتمع، في حين أن المظاهر الرأسمالية للمجتمع من شأنها أن تنمي النزعة الفردية الاقتصادية مما يفكك التضامن العضوي الاجتماعي المذكور.
ويلاحظ أن الحركات الفاشية التي انتشرت في أوربا قبل الحرب العالمية الثانية قد استندت إلى تيار اليمين التقليدي، لذلك فقد زالت الصور الاجتماعية التي سعت إلى الدفاع عنها ضمن القارة الأوربية والعالم.
وبعد الحرب العالمية الثانية اتجهت اليمينية إلى إعادة إنتاج ذاتها عن طريق التجديد في الأرضية الفكرية للمبادئ التي تقوم عليها، حيث ظهرت اليمينية الجديدة في ألمانيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص والتي قامت على أساس أن نفوذ الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية قد استشرى، وهيمن على الحياة الحديثة، وأن النظام الرأسمالي مدمِّر للرموز والممارسات التقليدية التي تشكل عماداً رئيساً للوجود الاجتماعي الهادف، ومن هذا المنطلق فإن اليمينيين الجدد يساندون فكرة النقد الثقافي والأخلاقي للمؤسسات الحديثة، وذلك ليس مناهضة للفكر التقدمي، إنما في سبيل خلق مزيج أكثر دقة بين الحاضر والمستقبل.
يذهب أنصار اليمينية الجديدة إلى أن اقتصاد السوق ضرورة، ولكنه ليس شرطاً كافياً لإقامة مجتمع صالح، لذلك فإنهم يؤكدون الدور الجوهري للأسرة وللتربية بعدّهما عمادين لا غنى عنهما لقيام مجتمع جدير بالاحترام، وذلك كيلا يكون الناس في المجتمع عراة روحياً غير مترابطين ومنعزلين.
ولعل عبارة «الليبرالية الجديدة» هي خير ما يمكن أن توصف به أفكار اليمين الجديد لأن الأسواق الاقتصادية هي صاحبة الدور الأكبر في تشكيل أفكار هذا الاتجاه، إذ يرون أن المشروع الرأسمالي لم يعد هو مصدر مشكلات الحضارة الحديثة، إنما هو على العكس جوهر كل ما هو جيد وصالح فيها؛ لأن منظومة السوق التنافسية لا تحقق فقط أقصى قدر من الفعالية الاقتصادية بل إنها الضامن الرئيسي للحرية الفردية والتضامن الاجتماعي، ويبدي الليبراليون الجدد إعجابهم بالنزعة الفردية الاقتصادية على عكس ما كان سائداً لدى مفكري اليمينية التقليدية، وذلك على أساس أن النزعة الفردية الاقتصادية تلك هي مفتاح نجاح الديمقراطية في سياق دولة الحد الأدنى.
ويرى اليميينون الجدد أن مصدر النظام في المجتمع لا يكون ماثلاً أساساً في التخطيط العقلاني الموجه من جانب الدولة، بل في الذاتية العضوية الخاصة بالمجتمع ذاته من حيث ولادة تآزر عفوي غير متعمد بين أفراد كثيرين يعملون وفاء لمتطلبات دوافعهم الخاصة.
وبناءً على ذلك فإن دور الحكومة لا علاقة له بإنتاج السلع والخدمات في السوق الاقتصادية، إنما يجب أن تتولى مسألة تنظيم إنتاج السلع والخدمات لتؤدى على شكلها الصحيح.
ويقضي فكر اليمين الجديد أن الملكية والتراتبية الاجتماعية لها صيغة مغايرة عن الصيغ السابقة للنزعة المحافظة، فهم يرون ضرورة تشجيع الملكية الخاصة بحسبان أن ذلك يعدّ أحد أنماط ضمان المشاركة في نظام السوق، ومن ثم فإن التراتيبية الاجتماعية ليست من ذلك النوع الذي كانت تقدره النزعة المحافظة القديمة والذي يسمح بانتقال الامتياز الموروث عبر الأجيال، إنما تتمثل في الصعود في السلم الاجتماعي لجميع من تتوافر لديهم إرادة النجاح وعزيمة المنافسة.
ولكن اليمينيين الجدد يرون أن النزعة الفردية التنافسية لابد أن توضع ضمن أطر الحياة الاجتماعية، لذلك فإنهم يبرزون دور الدولة القوية حتى يتسنى لها فرض القوانين التي تقوم عليها المنافسة، وكذلك يطلبون الحماية ضد الأعداء الخارجيين، علاوة على غرس مشاعر الوحدة الوطنية وترسيخها، وكذلك يرون أن الأسرة ـ شأنها شأن الدولة ـ يجب أن تكون قوية، ومن هنا فإنهم يقترحون ضرورة تعزيز الروابط الأسرية.
أما اليسارية leftism فهي اتجاه فكري سياسي يدل على الاتجاهات الاقتصادية والسياسية ذات الأساس الاشتراكي[ر: الاشتراكية (تاريخ الأفكارـ)]، ويقترن هذا الاتجاه بمصطلح التقدمية الذي شاع في الفكر السياسي على صعيد الفكر والممارسة زمناً طويلاً. وتعني فكرة التقدمية في هذا المجال أن هناك اتجاهاً للتاريخ، وأن أنواعاً ملائمة من التدخل السياسي من شأنها أن تساعد على تحديد مسار التاريخ، بل يمكن أن تعجل من مسيرته، وبذلك فإن الفكر السياسي اليساري قد أفضى إلى سلسلة من الأفكار، ولاسيما من حيث تعزيز نزعة المركزية بدرجة أو بأخرى ومن حيث توليد قسوة واضحة في بعض الأحيان تتناقض من نواح كثيرة مع قيم الاشتراكية التي يمثلها هذا الاتجاه.
وعلى كل حال، فإن الاتجاهات اليسارية تقوم في مجملها على أساس افتراض أن الملكية الخاصة شر اجتماعي، وأن تراكم الثروات الشخصية خطر أخلاقي، يتعين التقليل منه إلى أدنى حد وبأسرع ما يمكن، لذلك يجب صوغ الحياة الاقتصادية في إطار البعد الاجتماعي المتناسب معها، وذلك عن طريق التخطيط العقلاني الذي تنهض به الدولة ذاتها مما ينظم في النهاية المدخلات والمخرجات الاقتصادية، ويحقق فرضية العمالة الكاملة.
ويمكن تمييز اتجاهين واضحين لليسارية، حيث توجد اليسارية الثورية التي تمثل اليسار المتطرف من جهة، واليسارية الوسطى التي تمثل اليسار المعتدل من جهة أخرى، ويلاحظ أن اليسارية الثورية تنادي بالقضاء على الديمقراطية بصورتها البرجوازية[ر]، حيث تعدّها ضرباً من الزيف بحسبان أن الحقوق الديمقراطية لا تتوافر لكل فرد، إنما هي متاحة للقلة المتميزة فقط، ومن ثم فإنه لا يمكن إنجاز تعميم شامل للامتيازات الديمقراطية داخل المجتمع الرأسمالي. وإضافة إلى ما تقدم فإن اليساريين الثوريين لا يؤمنون بالإصلاح منهجاً وطريقاً لتغيير البنى الاجتماعية القائمة، بل ينظرون إلى الإصلاح على أنه نوع من المسكنات التي تقف عائقاً دون تحقيق النقلات الاجتماعية.
أما اليسارية المعتدلة فتلائم البعد الاشتراكي مع الحقوق الديمقراطية المعترف بها في كل المجتمع الرأسمالي، وذلك انطلاقاً من أن التحولات العضوية المهمة لايمكن أن تكون إلا على نحو ديمقراطي، ومن ثم مقبولة من غالبية الشعب، ومن ضرورة إعطاء الحقوق الديمقراطية القائمة للأفراد بعداً اجتماعياً، وبذلك فإنها تؤمن بالإصلاح والتعديلات الاجتماعية الاقتصادية الجزئية والتدريجية منهجاً وطريقاً.
ويلاحظ أن الأفكار اليسارية - ولاسيما المعتدلة منها- أثمرت فكرة دولة الرفاه welfare state التي تقوم على أساس تدخل الدولة في الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية وذلك في سبيل خلق تلاحم اجتماعي عن طريق خلق طائفة من الحقوق الاجتماعية للأفراد تتكفل الدولة بحفظها، ومن ثم فإن تدخل الدولة في الاقتصاد من شأنه أن يوجد توازناً اقتصادياً من حيث رأس المال المطروح في السوق وتوازناً في سوق العمل، كما أن تدخل الدولة في ضمان الحقوق الاجتماعية للأفراد من شأنه أن يساعد على خلق حالة ديمقراطية حقيقية. وقد تعرضت فكرة دولة الرفاه لكثير من الانتقاد في السنوات الأخيرة، ولاسيما من حيث حجم الإنفاق الذي تقوم به الدولة، إضافة إلى أن الرفاه الذي تقدمه الدولة إلى مواطنيها قد خلق نوعاً من التواكلية الاجتماعية، أدت إلى مظاهر اجتماعية سلبية، يأتي على رأسها التفكك الأسري.