بســــم اللـــــه الرحمـــــن الرحيـــــــم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلي وسلم على الحبيب المصطفى وعلى الـه وصحبـه أجمعيـــن
إلاَّ مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ في التُّرَابِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلامعلى سيد الخلق والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يومالدين.
قال رسول الله : «افْعَلُواالخير دَهْرَكُمْ، و تعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يُصِيبُ بهامَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وسَلُوا الله أنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمُ، وأنْيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمُ» [رواه الطبراني]، يستفاد من الحديث أن المسلمفضلاً عن أنه يفعل الخير باستمرار، إلا أنه يغتنم الأوقات المباركة التي تهب فيهانفحات رحمة الله تعالى فتتضاعف الحسنات وتُمحى السيئات، فالله عَزَّ وجَلَّ برحمتهفَضَّلَ أياماً على أيام حتى يتيح للمسلم فرصة اغتنام أكبر قدر ممكن من الأجروالثواب، ونيل أرفع الدرجات.
ومن الأيام التي فَضَّلَها الله تبارك وتعالىعلى سائر الأيام، أيام العشر الأول من ذي الحِجَّةِ، تلك الأيام المباركة، التيأقْسَمَ فيها عَزَّ وجَلَّ فقال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍعَشْرٍ} [الفجر: 1-2] وهذا القسم لبيان فضيلة الأيام العشر الأول من ذيالحِجَّةِ وعظيم نفعها، حتى قيل: "هي أفضل أيام السنة".
وفي الحديث الشريفعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أيَّامٍأفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ»قَالُوا: "وَلاَ الْجِهَادُ؟" قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ، إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِوَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» [رواه البخاري].
قال ابن حجر فيشرحه للحديث: "وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته وأن الغاية القصوى فيهبذل النفس لله, وفيه تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة, وفضل أيام عشر ذي الحجةعلى غيرها من أيام السنة".
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضيالله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أيَّامٍ أحَبُّ إلَى اللَّهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّمِنْ هَذِهِ الأيَّامِ»قِيلَ: "وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟" قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلاَّ مَنْخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى تُرَاقَ مُهْجَةُدَمِهِ» [رواه أحمد].
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «ما مِنْ عَمَلٍ أزْكَى عند الله عَزَّ وجَلَّ، ولا أعْظَمَ أجْراًمِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ في عَشْرِ الأضْحَى»قِيلَ: "وَلاَ الْجِهَادُ فِيسَبِيلِ اللَّهِ؟" قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنفسه ومَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْذَلِكَ بشيء» [رواه الدَّارمي].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان يُقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفـة بعشرة آلاف يوم" [رواهالبيهقي]، وعن الأوزاعي قال: "بلغني أن العمل في اليوم من أيام العشر كقدر غزوة فيسبيل الله يُصام نهارها ويُحرس ليلها إلا أن يُختص امرؤ بشهادة" [رواه البيهقي].
فالكيِّس الفطن من عَرَّضَ نفسه لنفحات رحمة الله تعالى فصلى وصام وتصدق ووصلرَحِمَهُ وعفا عمن أساء إليه وظلمه وقرأ القرآن وتدبر وسبَّح وكبَّر وذكر اللهتعالى واستغفر ونهل من الصالحات ما أمكن، والغافل المغرور الذي يقضي تلك الأيامالمباركات في غفلته وفي لعبه وفي ركضه وراء دنيا زائلة ونفس أمارة بالسوء وصحبةفاسدة فيخسر موسم طاعة عظيم لا يأتي إلا مرة واحدة كل عام.
وقد خَصَّ رسولالله عبادة الذِّكْرِ "التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِوَالتَّحْمِيدِ" بالاسم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: «مَا مِنْ أيَّامٍأعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أحَبُّ إلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِالأيَّامِ الْعَشْرِ، فَأكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِوَالتَّحْمِيدِ» [رواه أحمد]، فدَّلَّ الحديث على عظيم أجرها وجزيل ثوابها،بالرغم من أنها أخَفُّ عبادة على المسلم، فلا مجهود بدني يبذله كالصلاة والصوممثلا، ولا مجهود مالي ينفقه كالزكاة والصدقات والكفارات مثلا، بل تحتاج عبادةالذَّكْرِ إلى قلب متصل بالله عَزَّ وجَلَّ، فمن ثقلت عليه عبادة الذَكْر فغيرها منالعبادات البدنية والمالية لا شك أنها عليه أثقل، فليحذر من لا يرطب لسانه بذكرالله عَزَّ وجَلَّ وليراجع نفسه وليحاسبها فحتما هناك خلل كبير لا بد أن يتداركهقبل فوات الأوان.
وختاما، أكَّدت جميع الروايات الشريفة الواردة في فضلالأيام العشر الأول من ذي الحِجَّة على عظيم فضلها وكبير أجرها، لكنه مهما عَظُمَوكَبُرَ فإنه لا يبلغ فضل وأجر الجهاد في سبيل الله تعالى، فلا شيء يعدل أنتُرَاقَ مُهْجَةُ دَمِكَ ويُعَفَرُ وجهك في التراب وأنت تجاهد بنفسك في سبيل اللهتعالى، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي قال: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر»يعني عشر ذي الحجة، قيل: "ولامثلهن في سبيل الله؟" قال: «ولا مثلهن في سبيل الله إلاَّ مَنْعَفَّرَ وَجْهَهُ في التُّرَابِ»وذكر يوم عرفة فقال يوم مباهاة [رواهالبزار وابن حبان].
والحمد لله ربَّ العالمين.