مقدمة:
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فإن الأعمال الصالحة تُكَمّل الإيمان وتزيده ولا يمكن أن يتم ولا أن يرسخ ولا أن يثبت في النفوس إلا بها؛ إذ بها تذاق حلاوة الإيمان، وبها ترتفع درجاته في قلب الإنسان، والحج من أكثر هذه الأعمال تأثيراً في الإيمان فإن كثيراً من أعماله تعبدية لا تَعَلُّليةٌ، ولا يدرك الشخص حِكَمَها ولكنها تنبهه على الموت وما بعده فيزداد إيمانه بذلك ويتأكد فما كان تَعلُّلياً من الأعمال قد يفعله الشخص بدافع المصلحة المترتبة عليه، أما ما كان تعَبِدُّياً محضاً فإنما يفعله الشخص من منطلق التسليم والاستسلام لأمر الله، ولا يخفى ما بين التسليم والإيمان من قوة الصلة: قال الله تعالى: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" [الأحزاب:22].
بداية الحج:
فبداية الحج هي الخروج من الأوطان والبلدان وسلوك هذه الفجاج العميقة، ثم بعد ذلك يغتسل الشخص كما تُغْسلُ الجنازة، ثم يلبس إحرامه كما يدرج في أكفانه، ثم يصلي كما يصلي المقرب للقتل، ثم يتهيأ بالتلبية لإجابة بارئه ومولاه، ويتذكر بذلك إجابته إذا دعاه حين الموت فإن الله سبحانه وتعالى يرسل ملك الموت ليقبض الأرواح، فتستجيب الأرواح دون تقدم ولا تأخر كما قال الله: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ" [الأنعام:61-62]. فيتذكر الإنسان هنا إجابة هذه النفس لبارئها إذا دعاها بتلبيتها دعاء الله الذي أمر به خليله في قوله "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" [الحج:27]. ويتجرد الشخص من مهامه كلها، ومن أمور الدنيا كلها حتى من ملابسه؛ ابتغاء مرضاة مولاه سبحانه وتعالى. وبذلك يتم الإقبال عليه، وأول ما ينادي بالتلبية يتذكر أن الناس في جواب الله تعالى لهم بهذه التلبية ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين كتب الله لهم الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة(1)، وأراد أن يباهي بهم ملائكته واختارهم ليكونوا من وفده الذي يفد إليه في هذه السنة، وهؤلاء مشرفون بحجهم، فهم ضيوف الرحمن المكرمون. وقد حُكِم لهم بقبول حجهم في بداية تلبيتهم ولذلك إذا لبى أحدهم ناداه منادٍ من السماء لبيك وسعديك حجك مبرور، زادك حلال وراحلتك حلال.
القسم الآخر: الذين يَرُدُّ اللهُ عليهم عملهم ولا يتقبله –أجارني الله وإياكم- فيكون حظهم من حجهم التعب والنصب وإفساد الوقت والساعات الطويلة وترك الأعمال في فترة زمنية مهمة، إذا نادى أحدهم "لبيك" يُناديه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ورحلتك حرام، حجك غير مبرور وسعيك غير مشكور، فيرد الله عليه حجه ولا يتقبله (2). ولذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً كان عنده فرأى كثرة الحجيج الملبين فقال ما أكثر الحجاج فقال ابن عمر: بل ما أقل الحجاج، قال ما أكثر الركب(3). أما الحجاج بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة فقليل؛ لأن الحج
معناه القصد ولذلك يقول الشاعر:
وأشهدَ من عوفٍ جموعاً كثيرةً *** يحجُّون سِبَّ الزِّبْرِقان المُزَعْفَرَا(4)
يحجون معناه: يقصدون فالحج معناه القصد، ولا يقبل الله تعالى قصداً أشرك فيه الشخص معه غيره.
كما ثبت عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عَمِلَ عملاً فيه معي غيرك تركته وشركه(5).
فكثير يشرك مع الله تعالى غيره في عمله برياء أو سمعةٍ أو غير ذلك فلا يتقبل الله حجه ويرده، وينسب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
إذا حججتَ بمالٍ أصله سُحُتٌ(6) *** فما حججتَ ولكن حجَّتِ العيرُ
لا يقبـل الله إلاَّ كـل طيبـة *** ما كلُّ من حجَّ بيتَ الله مبرورُ(7)
فقلة هم المبرورون الذين يُتقبل منهم حجهم ويؤثِّر في إيمانهم
ويزيده.