للحبِّ أسرارٌ وأسرار، وللوله والصبابة في قلب المُتيّم مستودع للأخبار، ولمكة والمدينة لوعة واشتياق، تسكن قلوب الموحّدين والأعماق؛ فحبهما بحرٌ لا ساحل له ولا تُكدّره الدِلاء، والنفوس برؤيتهما تطيب ويجللها الشفاء.
حاولة كثيراً أنْ أعبر عن هذه المشاعروما يختلج ويتلجج في الصدر؛ فما ساعدتني الحروف، وخذلني قلمي؛ غير أني وجدتُ الراحلة ابنُ بطوطه جادة قريحته بالشوق والحبِّ لهذين المسجدين فقال في كتابه "تحفة النّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" يصفُ اشتعالَ القلوب بحب هذه البِقاع؛ فشفى العليل وأروى الغليل:
(من عجائبِ صنع اللهِ تعالى؛ أنّه طبعَ القلوبَ على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدِها الشريفة، وجعل حبّها متمكناً في القلوب، فلا يحلها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه، ولا يفارقها إلا أسفاً لفراقها، متولهاً لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناوياً لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب، حكمة من الله بالغة، وتصديقاً لدعوة خليله، عليه السلام. والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاق ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عياناً دونها، ويشاهد التلف في طريقها، فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسروراً مستبشراً، كأنه لم يذق لها مرارة ولا كابد محنة ولا نصباً، إنه لأمر إلهي، وصنع رباني، ودلالة لا يشوبها لبس، ولا تغشاها شبهة، ولا يطرقها تمويه، وتعز في بصيرة المستبصرين، وتبدو على فكرة المتفكرين، ومن رزقه الله تعالى الحلول بتلك الأرجاء، والمثول بذلك الِفناء، فقد أنعم الله عليه النعمة الكبرى، وخوّله خير الدارين : الدنيا والأخرى، فحق عليه أن يكثر الشكر على ما خوّله، ويديم الحمد على ما أولاه).
لا تَعْذِلِ المشتَاقَ في أشواقِهِ ********* حتَّى يكون حَشَاكَ في أحشَائِهِ
إنَّ القتيلَ مُضَرَّجاً بدمُوعِهِ ********* مِثْلُ القتيـلِ مُضَرّجاً بدمائِـهِ