الجنس : العمر : 31 مهد الذهب التسجيل : 06/09/2011عدد المساهمات : 232
موضوع: ☆❀☆ ياباني في مكة ☆❀☆ الخميس 22 ديسمبر 2011, 11:56 am
ياباني في مكة
تكشف رحلة الحاج محمد صالح (تاكيشي سوزوكي) إلى الأماكن المقدسة في السعودية قبل حوالي 70 عامًا عن جوانب لواقع الحياة في الدولة الناشئة أيام الملك المؤسس عبد العزيز.
فالياباني الذي عشق وطنه وتغنى بمحاسنه وعمل من أجله، واعتنق الإسلام بعد أن عاش بين المسلمين في جزر إندونيسيا عدة سنوات، دوّن مذكراته عن رحلته الثالثة إلى الأماكن المقدسة وأدى خلالها مناسك الحج بعد رحلتين سابقتين للهدف ذاته، وأثمر ذلك عن تأليف كتاب عُد نموذجًا متكاملًا للنمط الأدبي المعروف بـ «أدب الرحلات»، وهو النمط الذي له علاقة بجميع العلوم الاجتماعية، ويستفيد منه كتاب السير وعلماء الجغرافيا والاجتماع واللغة.
سجل الرحالة في مؤلفه الذي عنونه باليابانية (الحج إلى مكة المكرمة) وترجم إلى العربية بعنوان (ياباني في مكة) معلومات تتعلق بالإسلام ومبادئه، وعن الرحلة ذاتها، والظروف التي دفعته إلى القيام بها، مركزًا على الأمور الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية، ووصف الطرق والعمران والمرافق، والظواهر المناخية، ووجه عناية خاصة للأمور الاجتماعية من خلال تناوله للإنسان، وفئات المجتمع، وطبقاته، ووضع الرجال والنساء في المجتمع.
ورسم المؤلف في كتابه صورة للملك عبدالعزيز الذي شاهده عن قرب والتقاه، وقد خصه الملك دون غيره من الحجاج باللقاء أطول وقت ممكن، حيث أوقفه بجانبه طوال مدة مصافحته لوفود العالم الإسلامي التي قدمت للسلام على الملك المؤسس في حج عام 1356هـ (1938)، فرسم المؤلف للملك صورة دقيقة الملامح، جميلة القسمات، خطها بأصدق الكلمات وأوضح العبارات، دون رياء، أو مجاملات، وكتب عن حياة الملك وعن كفاحه حتى استرد ملك آبائه وأجداده، وتمكن من توحيد أجزاء البلاد، وتأسيس السعودية الحديثة، ووصف الملك في كتابه بأنه «رجل لا يقهر» وبأن «النصر يواكبه حيث مضى»، وأن النصر «حليفه على جميع أعدائه».
وأنجزت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ترجمة الكتاب إلى العربية في كتاب حمل عنوان «ياباني في مكة» وقام بترجمته كل من الدكتور سمير عبدالحميد إبراهيم، وسارة تاكاهاشي، وعُد هذا العمل أول مرة في التاريخ يقدم فيه فكر أدبي إسلامي ياباني للقراء العرب. ورأى المؤلف أن مذكراته عن الحج التي ضمنها في الكتاب بعد زيارته إلى الأماكن المقدسة حاجاً ثلاث مرات كتبها حتى يقدم للناس في بلاده «اليابان» فكرة واضحة عن الجزيرة العربية التي يظنها الناس «مكانًا غامضًا» و«مكانًا سريًا»، مشددًا بالقول إنه كتب ذلك بكل أمانة، وسوف تغمره السعادة إذا اهتم الناس بالإسلام، ورغبوا فيه ومالوا إلى اعتناقه، بعد قراءتهم لكتابه.
واعتبر المؤلف تاكيشي سوزوكي أو الحاج محمد صالح أن الأرض المقدسة أرض أحلامه، وأورد قصة حصوله على إذن بدخوله السعودية بعد رحلة من ميناء كوبيه الياباني إلى مصر مع مجموعة من مسلمي منشوريا، حيث حصل على تأشيرة الدخول إلى الأراضي السعودية بعد أسبوعين من وصوله إلى مصر من خلال القنصلية السعودية التي عندما دخلها شاهد بعض موظفيها وهم يرتدون ملابسهم الرسمية الأمر الذي أثار استغرابه، وبعدها ركب سفينة من السويس متجهة إلى جدة وأسماها «سفينة الحجاج» ليؤدي الحج للمرة الثالثة، وشاهد على ظهر السفينة فيلمين أحدهما أميركي فكاهي والآخر مصري، الأول أثار سعادته وسعادة الركاب وجعلهم يضحكون من قلوبهم، بل صاروا يقهقهون ويقرقرون.. أما الثاني فأثار غضبه لأن الفيلم في رأيه يهدف إلى رفض المنتجات اليابانية من الملابس واستبدالها بملابس محلية تنتجها شركة مصر للأقمشة.
وبعد ثلاثة أيام وصلت سفينة الحجاج إلى جدة وكان الركاب قد ارتدوا ملابس الإحرام: «كانت أشعة الشمس حارقة، تلهب الوجوه، كنا ننظر بشوق من بعيد إلى ميناء جدة، كان الجميع في سرور وفرح، والوضع في ميناء جدة شبيه بالوضع في جزر سايبان في المحيط الهادئ، يجب أن تتوقف السفينة بعيدًا جدًا عن الساحل بسبب انتشار الشعب المرجانية هنا».
ويواصل المؤلف الحديث عن كيفية وصوله إلى مكة المكرمة ودخوله الحرم، وأعطى وصفًا للكعبة وساحة الحرم والحجر الأسود والسعي بين الصفا والمروة والحلق والتقصير والليلة الأولى في مكة، كما أعطى وصفًا لنهار قائظ ومهاجمة الناموس له في مكة إلى أن وصل إلى عرفة والوقوف في صعيدها الطاهر، وتأدية جميع مناسك الحج، وقدر عدد الحجاج في تلك السنة بحوالي 200 ألف حاج. وعرج المؤلف على ذكر طواف الإفاضة في حجته تلك متذكرًا حادثة الهجوم على الملك عبد العزيز ومحاولة اغتياله الفاشلة التي أثارت استياء المسلمين بل العالم في حج عام 1353 هـ (1935م) بقوله: علينا أن نطوف حول الكعبة ونسعى، وهذا الطواف يجب أن يقوم به الحجاج اليوم، لكن بعض الناس يمكنهم القيام به عند مغادرتهم مكة، لكن المسلم المتمسك بأداء الفرائض جيدًا، يجب أن يقوم به الآن.
حين كنت أقوم بهذا الطواف في حجي الأول عام 1935م، حدثت واقعة تاريخية هنا، وهي أخطر واقعة في الجزيرة العربية، هكذا قالت الصحف، شاهدت الملك ابن سعود وهو يتعرض للاغتيال، لا يمكن أن أنسى هذا أبدًا، ولحسن الحظ، وبفضل الله، فشلت محاولة الاغتيال، لكن هذا الحدث أوضح للناس أن هناك من يتأبط شرًا، ويتربص بأمن واستقرار الوضع في جزيرة العرب، كما أوضح للناس أن هناك نوايا مغرضة تجاه الجزيرة العربية.
شاهدت الملك الشجاع ابن سعود، ويمكن أن نستشف تاريخ حياته من خلال ملامحه ومظهره، بما في ذلك سلوكه غير العادي، وثباته، ودرايته، وطريقة تصرفه في مثل هذا الموقف الحرج، لا أحد ينكر ـ بعد مشاهدة هذا الحدث ـ أنه بطل الجزيرة العربية، شاهدت (بأم عيني)، ورأيت بكل وضوح كيف تصرف في ذلك الوقت، وشاهدت كل ما حدث من البداية حتى النهاية.. إنني أبجله كثيرًا، وأكن له كل الاحترام، من أعماق قلبي.
كان الملك ابن سعود يطوف حول الكعبة المشرفة، جئت للحج أول مرة، وفي مثل هذا اليوم انتهينا من (رجم إبليس)، وجئت لطواف الإفاضة.
في ذلك اليوم (15 مارس عام 1935م) وفي الساعة العاشرة صباحًا جئنا للطواف بمكة المكرمة، وفي ذلك الوقت جاء الملك ابن سعود مع خمسين من حرسه الخاص، ليطوف حول الكعبة، وكان الملك وحرسه في ملابس الإحرام أيضًا، وكان عدد قليل من الحرس يمسكون ببنادقهم، وبينما كان الملك ابن سعود يطوف، طلب من بقية الحجاج أن يفسحوا الطريق للملك حتى ينتهي من الطواف.
كان الملك يقرأ القرآن الكريم، ويتوجه بالدعاء لله، وكذلك كان الحرس المرافق له، وانتهى الملك من الشوط الرابع في الطواف، وفي وسط الشوط الخامس، وفجأة اندفع خمسة رجال، خرجوا من بين الناس، وكان بيد كل واحد منهم خنجر، فهجموا على الملك.
ظننت أنه قتل، لكن الشجاعة تحمي الإنسان دائمًا بعد حماية الله كان مشهدًا من مسرحية، استغرق لحظات.
أطلقوا النار على ثلاثة من المهاجمين وقبضوا على واحد منهم، حدث كل هذا بسرعة عجيبة، عند سماع صوت أعيرة الرصاص تنطلق من البنادق قال الملك:
ـ لا تقتل.. لا تقتل.. اقبض عليه.
لا أزال أتذكر صوت الملك وهو يردد: لا تقتل.. لا تقتل.. اقبض عليه بعد الانتهاء من تلك المشكلة، ساد الهدوء الحرم مرة أخرى، كما لو لم يكن قد حدث أي شيء من قبل، وتابع الملك ابن سعود طوافه حتى النهاية! آه! هذا الجسم القوي الفارع، الذي يزيد طوله عن مئة وثمانين سنتيمترًا، وذلك التصرف في مثل تلك الظروف، ثم تصرف الملك بعد انتهاء الحادثة، والهدوء العجيب الذي غطى قسمات وجهه، والسماحة التي كانت تشع من عينيه.. كل هذا جعلني أتعجب كثيرًا، وجعلني أبجله كثيرًا وأحترمه كثيرًا، شعرت بأنه فعلاً هو الرجل الذي قهر أشد الصعاب، فوحد هذه البلاد الصحراوية الصعبة، أشعر الآن، وسيلازمني هذا الشعور في كل مكان، بعظمة هذا الملك ابن سعود. ويصف المؤلف الحفل الذي يقيمه الملك عبدالعزيز عادة كل عام لاستقبال وفود الحجاج من مختلف دول العالم:
«بعد الانتهاء من الطواف، والذهاب ثانية إلى منى، والانتهاء من تقديم القربان (الهدي)، وبعد ظهر ذلك اليوم، وصلتني دعوة من الملك ابن سعود، في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، كانت الشمس كالعادة ترسل أشعتها الحارقة وكان الهواء قد هرب تمامًا من المنطقة وحتى حجرتنا كانت من الداخل كالمحرقة، فشعرت برأسي يكاد يلتهب من شدة الحرارة المحيطة بنا.
كان الوقت ظهرًا، غيرنا ملابسنا، ارتدينا الزي النجدي، وانطلقنا إلى قصر الملك ابن سعود، ارتدى تشان (ممثل مسلمي منشوريا) أيضًا الزي النجدي مع المشلح، كان تشان طويل القامة، ولهذا ناسبه الزي النجدي تمامًا.
على كل حال.. غادرنا الفندق برفقة عبدالله ابن صاحب الفندق إلى مقر الحفل كانت المدينة تعج بالناس وكان الغبار يتصاعد من رمال الطريق تحت أقدام الناس، كما لو كان يمنعنا من تنفس الهواء ومن خلال الزحام الشديد وصلنا بالقرب من المبنى الرسمي للشيخ عبد الله بن سليمان وزير المالية، ومن هذه النقطة تستمر المباني الحكومية، والجو هنا مختلف عن الجو داخل المدينة، وإذا ما مشينا تجاه الناحية الجنوبية، أمكننا مشاهدة قصر يتكون من طابقين مطلي باللون الأبيض، كان قصرًا فخمًا ضخمًا، لا يمكننا أن نتخيل وجوده، إذا ما تذكرنا شكل البيوت في مكة المكرمة، لم يكن القصر محاطًا بسور من الحجارة أو غير ذلك، فبدا بالنسبة لي قصرًا غير حصين.
جاء الناس للقاء الملك ابن سعود والسلام عليه، كانوا جميعًا في ملابس جميلة، وهم يمثلون مختلف بلاد العالم، كانت ملابسهم وأزياؤهم المختلفة الأشكال والألوان عجيبة جدًا بالنسبة لنا، لكن يبدو أنها غالية جدًا، وتنوعت هذه الأزياء: الأزياء الإفريقية والأزياء الهندية والأزياء الإندونيسية والأزياء الأفغانية وغيرها أكثر من أربعة وعشرين وفدًا يمثلون أكثر من أربع وعشرين دولة.
يقف هؤلاء الآن في أزيائهم القومية كما لو كنا في معرض للقوميات ومعرض للأزياء أيضًا، ويمكنني أن أشاهد في اجتماع اليوم ممثلي كل عرق لا ممثلي كل بلد، ويمكن أن أرى بشرات أناس متعددة الألوان، كلما تطلعت هنا أو هناك.
حين وصلنا القصر كان ممثلو وفود الدول قد سبقونا، وجدنا عددًا كبيرًا من الناس في المدخل الأمامي للقصر، قادني أحد الحراس إلى غرفة الانتظار، في الجانب المقابل للمدخل، وتعجبت، فقد وجدت في داخل الغرفة خيمة كبيرة، خيمة رائعة!! كان فيها حوالي مئة مقعد، لا يمكن أن أتصور جمال السجادة الحمراء المفروشة على الرمال داخل هذه الخيمة، كان لون السجادة يتماشى تمامًا ويتناسب مع قماش الخيمة الأخضر من فوقنا.
كان أكثر من نصف المقاعد قد شغلت، جلس عليها الضيوف في انتظار دورهم للسلام على الملك ابن سعود، بعد مدة جاء أحد الجنود يرتدي ملابس نجدية تقليدية، ويضع سيفًا طويلًا في وسطه، وخنجرًا على صدره، فقدم لنا عصير الليمون، وبعدها قدم أحد الحراس في ملابس نجدية عسكرية تقليدية، وقد وضع فوق هذه الملابس معطفًا طويلًا أخضر اللون، وعلى كتفه علامات نسجت بخيوط مذهبة، فقادنا للسلام على الملك.
تطلع إلينا الناس الذين كانوا ينتظرون، فقد فكروا أن مقابلة الملك ستتم بترتيب الوصول إلى هذا المكان، لكنهم هنا عاملونا دائمًا معاملة خاصة، لأننا لم نضطر إلى الانتظار، فنلنا بسرعة شرف لقاء الملك. كانت مساحة الغرفة التي يقابل فيها الملك الضيوف حوالي مئة «تتامي» (ما يعادل 125 مترًا مربعًا) ولها مدخلان: مدخل على اليمين، وآخر على اليسار، ومن يدخل من جهة اليمين يشاهد من فوره الملك الذي يقف أمام هذا المدخل، وعندها يصافح الملك ثم يخرج من الباب الموجود جهة اليسار.
أمام المدخل وضعت أحذية الناس الذين قدموا للسلام على الملك، كما هو الحال في اليابان، يجب أن تخلع هنا الأحذية قبل الدخول إلى الغرفة.
ويجب أن أذكر هنا أن الغرفة التي يقابل فيها الملك الضيوف، تخلو تمامًا من الصور والزخارف، فالسلفيون لا يحبون الزخارف والصور ولا يميلون إلى التبذير والترف، ولهذا لم يكن من المناسب زخرفة الغرفة هنا.
بالنسبة لي.. هذه هي المرة الثالثة التي أقابل فيها الملك ابن سعود.
صافحني الملك وصافح السيد تشان، وشد على أيدينا لفترة.
الملك العظيم الذي أنجبته جزيرة العرب.. الآن يمكن أن أشعر بحرارة يد هذا الإنسان العظيم.
حين صافحته انهمرت الدموع من عيني، غلبت مشاعري علي، لم أتمالك نفسي، لم أستطع أن أدقق في وجه الملك، فقد غطت الدموع وجهي، بما في ذلك عيني..
أمسك الملك يدي لفترة..
كل ما أحسست به في أعماقي، ومن داخل قلبي هو عينا الملك، ودموعي، ومصافحته لي.
لحظات شكلت خليطًا من المشاعر التي لا يمكن أن أصفها، ويمكن فقط للآسيويين فهمها، لحظات مملوءة بالانفعالات المتداخلة.
سحب الملك يده بهدوء، وأمر الحارس الذي يقف بجواره بأن يبتعد قليلًا، وأوقفنا بجواره على يساره، ومن هذا المكان، وعلى هذا الوضع كنا نشاهد الضيوف الذين قدموا للسلام على الملك.
كان هذا ترحيبًا لم نتوقعه، وشرفًا لم نفكر في الحصول عليه، وهدية لم نكن نحلم بها على الإطلاق.
بعد نصف ساعة صحبنا وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان إلى خارج الغرفة، وفي ذلك اليوم، وفي ذلك المكان أمكنني أن أقابل الأمير فيصل الابن الثاني للملك، وأيضًا ياسين وزير الخارجية (يقصد يوسف ياسين المستشار السياسي للملك ولم يكن وزير الخارجية).
وأذكر هنا أن الحارس الذي كان يقف في غرفة الاستقبال، كان يرتدي زيًا نجديًا عسكريًا تقليديًا، لم أر أي جندي يرتدي زيًا شبيهًا بالزي البريطاني، الذي يرتديه الجنود الذين يحرسون المدينة.
لا يمكن أن أحكم على شخصية الملك من خلال مسألة الزي هذه، فهذا خروج عن الأدب واللباقة، لكن الحقيقة أن الملك يعتبر من يكره الزي العربي، إنما يحتقر الروح العربية، بالطبع كان الملك يرتدي زيًا عربيًا، ويضع على رأسه مشلحًا من نوع خاص. ويمكنني أن أتذكر الآن وسأظل أتذكر على الدوام، في كل وقت، وفي كل مكان، هذا الشعور المثير الذي شملني حين قابلت الملك، فلا أزال أشعر حتى الآن بيده تصافحني.
حين جئت للحج للمرة الأولى التقيت أيضًا الملك، كان ذلك في اليوم التالي لمحاولة الاعتداء عليه في الحرم المكي، لكن الملك ابن سعود كان آنذاك كما هو اليوم، وكأن شيئًا لم يكن، حين رأيت هذا شعرت من أعماق قلبي بالاحترام الشديد لابن سعود، ويمكن أن أقول بكل ثقة إن هذا الإنسان بطل منذ أن كان صغيرًا، عاش حياة كلها كفاح مستمر، ونضال لم يتوقف، حتى وأنا أكتب هذه الجملة، أريد أن أتطلع على يدي اليمنى التي لمست يده وصافحته، لا يمكن أن أتمالك نفسي عن التفكير في تلك اللحظات، كانت يده قدر يدي مرتين، كانت آثار وعلامات الكفاح والنضال، لا تزال واضحة للعيان على أصابع كفيه، وأتخيل أيضًا قامته الفارهة، أكثر من مئة وثمانين سنتيمترًا، كان علي أن أرفع رأسي، وأشد قامتي إلى أعلى حتى أشاهد وجهه، الذي اتسم بالهدوء والحنان.. لا أزال أتذكر جيدًا ملامح وجه الملك، فبعد أن قابلته نسيت كل شيء من حولي، وامتلأ قلبي بشعور السعادة الغامرة.
وتناول الحاج الياباني في مذكراته جوانب اجتماعية واقتصادية وظواهر لمسها أثناء رحلاته إلى الحج من الصعب تقديمها بإسهاب، فقد تحدث عن الزواج في الجزيرة العربية ورأى أنه لا يسمح بشكل عام للفتاة العربية بأن تظهر نفسها أمام الآخرين، حين تبلغ الثامنة من عمرها ويجب أن تقضي معظم وقتها في غرفة الحريم، كما أعطى وصفًا لغرفة الحريم التي رآها عند زيارته لأحد بيوتات مكة وهو بيت تاريخي مشهور بحجة أنه سيرى مساحة الحرم من فوق أعلى المبنى القريب من الحرم.
اصطحبه شيخ كبير إلى المبنى المكون من خمسة طوابق والمبني بالخشب والطين، كانت السلالم مغطاة بالأسمنت أو الأحجار، وهي سلالم حلزونية، ومخيفة، وصلنا إلى السطح وأخذنا نتصبب عرقًا، بينما جذب العجوز مفتاحًا من بين «ربطة» المفاتيح التي ثبتها في خصره، ووضع المفتاح في فتحة الباب. لحظة مثيرة جدًا، يمكن أن ترى غرفة الحريم الآن.
ذهبت جميع النسوة إلى عرفات، وهذا يمكن أن نزور غرفهن بسهولة، ومع أن هذا العجوز صاحب البيت له الحق في أن يشاهد كل مكان في بيته، لكن ليس له الحق في أن يرى غرفة الحريم.
يبدو أنه كان فخورًا بأن جعلنا نشاهد غرفة الحريم هذه، بصفتنا من كبار الضيوف، وها هي غرفة الحريم أمامنا.
غرفة جميلة للغاية، جميلة جدًا، إذا ما قارناها بغرفتنا، كانت هناك طاولة مصنوعة من نوع خاص من الخشب، وبجوارها مرآة كبيرة، وامتلأت الغرفة بزخارف متعددة الأشكال ومختلفة الأنواع، طغى عليها اللونان: الأحمر والأزرق.
شعرت فجأة أنني دخلت عالمًا آخر مختلفًا تمامًا، لا يمكن أن أعبر عنه بالكلمات، شاهدت ملابس النساء معلقة في ركن الغرفة، وملابس الشابات الصغيرات التي كانت تشبه الزي الإسباني المزركش، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها ملابس النساء الملونة المزركشة، منذ أن دخلت جزيرة العرب، فعادة ما تغطي المرأة العربية جسمها من أعلاه إلى أسفله بملابس سوداء، ولا يمكن لأحد أن يرى وجوههن، وحتى بالنسبة لنا أيضًا لم نر وجه واحدة من النساء على الإطلاق، لهذا لم أكن أتصور أن تحت هذه الملابس السوداء التي يرتدينها مثل هذه الملابس الجميلة الملونة المزركشة.
ويسهب المؤلف في وصف الحفل السنوي لممثلي الدول الإسلامية الذي دعاه إليه وزير المالية في عهد الملك عبد العزيز، عبد الله السليمان الحمدان بعد تأدية مناسك الحج ولقائه الوزير في حديقة منزله في مكة، وتناوله طعام الغداء الذي كان خليطًا من الطعام الياباني والغربي والعربي مع زميليه والوزير وثلاثة من مساعديه. عن ذلك اللقاء يقول الحاج الياباني: كنا قد ذهبنا إلى منزل الشيخ عبد الله بن سليمان وزير المالية بسيارة الوزير، وكان اللقاء في حديقة المكتب، شاهدنا أحواض الزهور، من حول نافورة جميلة أراح هذا المنظر عقولنا، لأننا اعتدنا مشاهدة الرمال الصفراء فقط من حولنا، لفترات طويلة، كما شعرنا في نفس الوقت أننا ما زلنا على قيد الحياة، كانت النافورة فخمة ومن النوع الغالي الذي يعطي انطباعًا بالأبهة، وبدا الوزير كما لو كان فخورًا بها، وله الحق في ذلك. أحضروا الطعام، وكنا نحن الضيوف الأساسيين ثلاثة من اليابانيين مع الوزير، وثلاثة من مساعديه، ولم يكن الطعام على الطريقة العربية التقليدية، بل كان خليطًا من الطعام الياباني والغربي والعربي.
قدم إلينا الوزير الطعام بنفسه، كان يجب علينا أحيانًا أن نأخذ الطعام من طبقه إلى أطباقنا، وبعد الطعام تكلمنا عن الحج، وعن المؤتمر الديني. واستمر الحديث أربع ساعات من دون توقف، لكننا انتهينا من كل شيء تقريبًا، فطلبنا السيارة لنغادر المكان، وحملنا علم المملكة العربية السعودية الذي أهداه لنا الشيخ عبدالله بن سليمان في مساء اليوم التالي، وقبل المغرب غادرنا بالسيارة إلى جدة. كان علينا أن نبقى في جدة أسبوعًا، وهو موعد مغادرة السفينة، انتصف الليل، وعم السكون وكنت أستطيع سماع صوت الحشرات، بدا صوتًا حزينًا جدًا.
بعد أن وصلنا إلى جدة أسرعنا إلى القنصل المصري للحصول على تأشيرة دخول الأراضي المصرية. لا يسمحون بركوب أول سفينة تغادر جدة إلا للحجاج المصريين فقط، ولهذا كان علينا أن نركب السفينة التالية، هذه هي القواعد المعمول بها في أيام الحج، فسفينة الحجاج الأولى يجب أن تقدم تقريرًا صحيًا عن حالة الحجاج المصريين، الذين سينزلون في «الكرنتينة» الكائنة في جبل الطور في شبة جزيرة سيناء، فإذا ما تأكد المسؤولون من عدم وجود أوبئة أو أمراض معدية، كتبوا تقريرًا، عندئذ تغادر السفينة التالية من جدة. وواجهنا مرة أخرى مشكلة الحصول على تأشيرة لتشان لأنه من منشوريا، لكن القنصل المصري سمح بإعطائه تأشيرة دخول، وفرحنا جدًا لأن مصر اعترفت بمنشوريا. سوف نغادر جدة خلال ثلاثة أيام، ذهبنا لنتمشى على شاطئ جدة، يمكن أن نرى بعض الهضاب الصخرية القريبة من الشاطئ. عند هذه الهضاب شاهدت مباني بيضاء، هذه «فيلات» بناها أهل جدة ويطلق على المنطقة اسم «البغدادية» ويقال إنها جنة في الصيف.
وفي مواجهة الشاطئ مكاتب وقنصليات بريطانيا والاتحاد السوفييتي ومصر وهولندا وإيطاليا وفرنسا. فقد شاهدت أعلام تلك البلاد ترفرف على هذه المباني وحزنت حين كنت أشاهد تلك الأعلام، فلم أجد من بينها علم اليابان فشعرت بالأسى وكأنهم نسوا اليابان أو أهملوا ذكرها.
في جدة رافقنا ابن صاحب الفندق الذي نزلنا فيه، كان يدعى يوسف، وهو يختلف عن عبد الله الذي كان يرافقنا في مكة، فهو شاب ذكي، وهو فخور بنفسه لأنه عاش في إيطاليا يدرس لمدة سنة، وهو يهتم كثيرًا بهندامه وملابسه وسلوكه العام، يتكلم الإنجليزية، لكن ليس بطلاقة كما يستخدم أو يحشر الكلمات الفرنسية في حديثه، له شارب تحت أنفه، ويبدو من هيئته العامة أنه رجل «جنتلمان» لكن قد يتعجب القارئ فعمره خمس عشرة سنة وأربعة شهور فقط، الشباب في مثل عمره عندنا لا يزالون في المدرسة المتوسطة (الإعدادية) والأكثر عجبًا من هذا أنه متزوج بزوجة عمرها اثنتا عشرة سنة فقط، أخبرنا بأن أمله الذهاب إلى اليابان للدراسة.
كان الشاب يتكلم بكلام أكبر من سنه، وطريقته في الحديث تعطيك انطباعًا بأنه أكبر من عمره الحقيقي، وقال:
ـ هل سمعتم آخر الأخبار؟ يقولون إن بريطانيا دفعت ثمانين مليون جنيه لتحصل على حقوق التنقيب عن الذهب في «مهد».
ومهد اسم مكان قريب من شاطئ البحر الأحمر، وهناك شائعات بين الناس بوجود مناجم ذهب في المنطقة، استمر يوسف في الكلام فقال:
ـ بالطبع استثمر البريطانيون خمسمئة ألف جنيه، لكنهم يعرفون منذ البداية أنهم لا يمكن أن يحصلوا على فائدة من ذلك، إنه مشروع لا يدر عليهم أي ربح، وهدف بريطانيا ليس مناجم الذهب، لكن هدفها السيطرة على الطريق الساحلي في منطقة البحر الأحمر، ومعظم هذه النفقات صرفت على المعدات التي تنصب على ساحل البحر الأحمر، وربما تهدف بريطانيا إلى إنشاء ميناء حربي ملاصق للشريط الساحلي الذي يمهدون له الآن.
حين وصلنا إلى الميناء عرفنا أن هناك حفلة سيقيمها غدًا الوزير عبد الله بن سليمان، وعند الميناء شاهدنا السفينة التي سوف تقلنا وهي السفينة «كوثر».
جاء وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان لوداعنا حين كنا نغادر مكة متجهين إلى جدة، وبالطبع لم يأت خصيصًا من أجلنا، لكنه جاء أصلاً للترحيب برئيس بنك مصر «طلعت باشا» وكان من بين أهدافه أيضًا عقد اجتماع معنا لأطول مدة ممكنة، فقد كان يرغب في تطوير التجارة بين اليابان والمملكة العربية السعودية.
تحدثنا عدة مرات في هذا الموضوع أثناء وجودنا في مكة، قال:
ـ كما تعلم لدينا ثقة كبيرة بالمنتجات اليابانية وحكومتنا هنا توصي بصفة خاصة بضرورة الاستيراد من اليابان، كما أننا نخفض «التعريفة الجمركية» بالنسبة للبضائع اليابانية، مما أثار غضب بريطانيا، وهي تريدنا أن نساوي بين بضائع البلاد المختلفة في نسبة التعريفة الجمركية، وتلح في هذا الطلب بشدة لكن المملكة العربية السعودية بلد مستقل، يتمتع بالحرية، واقتصاده المستقل، خاضع فقط لأنظمة الدولة ولا يمكن لأحد التدخل في شؤوننا فهذا أمر داخلي يخص بلدنا.