بالطبع لا نتحدث الآن عن الدراجـة البـُخاريـة ذات الأربـع عجلات التي ابتكرتهـا شركة (ياماهـا) ويفضـّلهـا الشباب للـّهو على الشواطئ، ولا عن شخصية الكوميكس التي يعرفهـا عـُشـّاق سلسلة X-Men .. فكـُل هؤلاء مأخوذين ولو اسمـًا عن الأسطورة الأصليـّة التي سيعرفهـا من يتعدّى تلك السطور ..
يأخذهـا الكثيرين نذيـرًا للشـؤم، حيث لا تظهـر إلاّ كإنذار لموت شخصٍ مـا .. وذِكر الـ (بانشي) مـُنتشر في أساطيـر شعوب السلت، و(آيرلندا) بشكـل خاص التي تشتهـر فيهـا بهذا الاسـم ..
يحكي البعض أنهـا ترتبط بأسـر مـُعيـّنة، وأن عويلهـا لا يـُسمـَع إلاّ عند اقتراب أحـد أفراد تلك الأسـرة من الوفـاة .. وأن النائحـات محترفـات العويـل والندب في المآتـم الشبيهـات بالندّابـات في الثقـافة المصريـة تـُردِّد صوت الـ (بانشي) ورائهـا كأنهم صدى صراخهـا .. وهو تقليد موجـود في الثقـافـة الآيرلنديـة، حيث اعتاد الفلاحين في القرى عند وفاة شخص مـا جلب امرأة لغنـاء مرثيـّة أثنـاء جنـازتـه .. وتضيف الأساطيـر عليهـا أن الجنيـّات تغني في جنازات أفراد الأسـر الارستقراطيـة الغاليـّة: (أوجرادي)، (أونيل)، (أوبرايان)، (أوكونور)، و(كافانـاه) .. وأيضـًا يضيف البعض أن وجـود أكثـر من (بانشي) بوقتٍ واحـد يعني نذيرًا بوفـاة شخص عظيم أو مـُقدَّس ..
ويأتي اسم (بانشي) كاجتهـاد لتحويل ” bean sídhe” أو “جنيـّة التل” من الآيرلندية القديمـة إلى اللغـة الانجليزيـة .. كمـا تأتي لفظة ” sídhe” ومقابلتهـا الاسكتلنديـة “Sith” أحيانـًا كمعنى للسلام، وجديـر بالذِكـر أن اللفظة الأخيـرة قد ألهمـت المخرج الشهيـر (جورج لوكـاس) بتسميـة العناصر الفاسدة من فرسـان (الجيداي) في رائعتـه “حرب النجوم Star Wars” بأجزائهـا، والتي ظهرت بعنوان الجزء الأخيـر “Revenge Of The Sith” ..
ويصفونهـا الأغلبيـة كامرأة جميـلة ذات مظهر سوداويّ كئيـب، وأحيانـًا كساحـرة عجوز شمطـاء .. تلبس الأبيض أو الفضيّ وأحيانـًا الأخضـر – حيث تختلف الروايات بهذا الأمـر، عينـاهـا حمراوتـان دومـًا من أثـر البـُكـاء المـُستمـِر، وتمشـِّط شعـرهـا الطويـل بمشط فضـّي أو ذهبيّ .. وتحذر الأساطيـر من التقـاط هذا المشط عند رؤيتـه على الأرض، لأن الـ (بانشي) تلقيـه بانتظـار الساذج الذي ينحني لالتقاطـه حتى تغويـه بعدهـا لمصيره المحتوم، وتخلط الأساطيـر الآيرلنديـة هنـا بين الـ (بانشي) وعرائس البحـر وأيهمـا سيظهـر عند التقـاط المشـط ..
وقـائـع:
يـُحكى عن (ليدي فانشو) التي كانت تقيـم بمنزل عائلـة (أوبرايان) الارستقراطيـة في القرن السابع عشـر الميلاديّ .. أنهـا كانت تقبـع في سريرهـا ذات ليلـة، عندمـا فوجئـت بظهـور امرأة حمـراء الشعـر بيضـاء شديدة الشحوب، والتي عندمـا فتحت فمهـا لم تقـل سوى كلمـة واحـدة غامضـة كرّرتهـا ثلاث مرّات بصوتٍ عالِ: “حصـان” !
وفي الصبـاح التالي، جاءت ربـّة المنزل لتخبـر (ليدي فانشو) بأنهـا عائدة لتوّهـا من جنـازة أحـد أولاد عمهـا الذي توفي منذ ساعـات، بنفس توقيـت ظهور المرأة الشبحيـّة بالضبط !!
ولم يتضـح مقصـد الـ (بانشي) بالضبط ضمن روايـة (ليدي فانشو) من كلمـة “حصـان“، لكن البعض يفسرونهـا بأنهـا كانت ترمـز لرحـلة المتوفي إلى العـالم الآخـر ..
(بانشي) أخرى، وغيـرهـا:
سبق الإشـارة لوجـود (بانشي) في الحضارة السلتية بأماكن أخرى غيـر (آيرلندا) .. وهاكـُم بعض التفصيـل عنهنّ في السطور التاليـة:
سيهريث (Cyhyraeth):
هي المـُقابـل للـ (بانشي) في (ويلـز) .. ويصفونهـا كطيف شبحيّ لامرأة تبكي وتنوح قبـل موت شخصٍ مـا، وأحيانـًا للإعـلان عن قدوم وبـاء أو كارثـة ..
ولا أحـد يستطيع رؤيتهـا، لكن الجميـع يتعرّفهـا من عويلهـا .. ويتحاكون بكثـافة تواجدهـا في (ساوث ويلز).
جلايستيح (Glaistig):
هي مخلوق خرافيّ مـُتعدِّد الأشكـال في أساطيـر وفولكلور (اسكتلندا)، وتـُعرَف أيضـًا باسم (ماديـان أويهـاين) أو (العذراء الخضـراء) ..
تظهـر (جلايستيج) غالبـًا على هيئة امرأة عملاقـة، وأحيانـًا كنصف امرأة ونصف عنزة، وأحيانـًا كعنزة كاملـة .. وفي كـل الحالات ترتبط باللون الأخضـر .. يجدهـا الناس دومـًا بجوار النهـر، حيث تجلس هنـاك مـُستعطفـة العابرين ليحملونهـا عبـر الطريق .. ويتراوح مصيـر عاثـر الحظ الذي يقبـل حملهـا من التيـه إلى الذبـح .. لكنّ تلك الصورة المـُفزعـة ليست الوحيـدة التي ترسم أساطيـر (اسكتلندا) بهـا (جلايستيج) .. فهنـاك من يصفونهـا كجنيـة طيبة تقوم بالأعمـال المنزليـة للأسـرة وهـُم نيـام، وأنهـا تحمي الأطفـال والعجـائـز، وأنهـا – على غرار قريبتهـا (بانشي) – تعوي عنـد اقتراب موت أحـدهم. وهنـاك حكايـة شهيـرة في فولكلور (اسكتلندا) عن الحدّاد الذي نجح في الإمسـاك بواحـدة، ليجبرهـا على الإتيـان له بقطيع من الماشيـة السحريـة وبنـاء منزل جميـل .. وأنـه حرَّرهـا بعـد تنفيذهـا طلباتـه .. وعندمـا لوَّحت بيدهـا لتوديعـه قطـعهـا لهـا الحدّاد على الفـور .. وتذهب الحكايـة لأن حتى هذا اليـوم يمكن رؤيـة الدمـاء على جميـع النباتـات الناميـة في تلك المنطقـة كذكرى ليـد (جلايستيج) المبتورة.
الغاسلـة (Washer at the Ford):
نجـدهـا في كـُلٍ من أساطيـر (آيرلندا) و(اسكتلندا) و(ويلز) و(بريتاني) – مملكة قديمة من قبائل السلت تقـع في شماليّ غرب (فرنسـا) – حيث تتفق تلك الشعوب السلتيـة بأن (الغاسلة) تجلب نذيـر الموت للجنـود الذي يوقعهم حظهم السيئ برؤيتهـا تنظـِّف الدم من الملابـس الكـِتـّانيـّة ..
وأيضـًا يصوّرون (الغاسلـة) على أنهـا أحـد آلهـة الموت، وأنهـا تأخذ على عاتقهـا انتشـال الجثث المـُمزَّقـة للجنود لتنظفهـا من الدمـاء حتى تعـود أرواحـهم نقيـة كمـا كانت .. وتظهـر – كالعـادة – بين صورتيّ المرأة الجميـلة الحزينـة والساحـرة العجوز الشمطـاء .. وترتبط (الغاسلة) بالـ (بانشي) في الأساطيـر الآيرلنديـة بشكل مـُباشـر، نظرًا للاشتراك الواضح بينهمـا في الإنذار بالموت الوشيـك رغـم اختلاف الوسائـل.