ليس من المبالغة القول ان تركيا تملك من الامكانات ما يخولها ان تصبح أحد أفضل المقاصد السياحية في آسيا وأوروبا لأسباب موضوعية عديدة‚ فهذه الدولة‚ الجاثمة في آسيا مع موطىء قدم كبير نسبيا في أوروبا باتت تستقطب أعدادا متزايدة من السياح سنويا لدرجة ان المنظر الذي لا ينفك المرء يشاهده هو الباصات المحملة بالسياح من جميع أنحاء أوروبا والتي تصادفك عند كل شارع وموقف وتقاطع طرق‚
لقد حبا الله تركيا بطبيعة خلابة تخطف الابصار وتسلب ألباب العقول‚ ولذلك فإن أكثر ما كان يراودني من أفكار خلال تجوالي في ربوع هذه البلاد هي ان تركيا تملك كافة المقومات لكي تكون القبلة الأولى للسياح من الشرق الاوسط وأوروبا إلا أن الوصول إلى هذا الهدف يحتاج إلى اهتمام أكبر بقطاع السياحة الذي وان كان شهد تطورا لافتا خلال الاعوام القليلة الماضية إلا انه يحتاج إلى المزيد من العمل والجهد‚
ومع ذلك فإن الموضوعية تقتضي القول ان المشاكل الاقتصادية التي عانت منها تركيا خلال الآونة الأخيرة قد كان لها اثر سلبي على العديد من قطاعات الحياة خاصة مع انهيار سعر صرف الليرة التركية وما نتج عن ذلك من تضخم وارتفاع في الاسعار‚
في الحقيقة لا يمكن لأي شخص ان يدعي انه زار تركيا مالم يحط رحاله في مدينة استنبول حتى لو كان ذلك ليوم واحد فقط‚ فهذه المدينة التي يتراكم فيها التاريخ والحضارات بشكل استثنائي تشد الزائر منذ ان تطأ قدماه ارضها ولكن بالنسبة لي فقد نسجت علاقة عشق معها منذ ان رأيتها من شباك الطائرة‚ عندما زرتها للمرة الاولى‚ وكما هو الحال مع الكثيرين فان هذا العشق يزداد ترسخا كلما رأيتها مجددا‚
لعل اهم ما يميز استنبول انها تقع في مكان ما غير محدد تماما بين الشرق والغرب‚ فالقول بانها شرقية يجافي الواقع والقول بانها غربية يدخل في اطار المبالغات ومع ذلك فان الشيء المؤكد انها تعد من بين اجمل المواقع في العالم من حيث كونها مدينة كبيرة نظرا لكثرة تلالها الخضراء ووقوعها بين بحر مرمرة والبحر الاسود هذا فضلا عن طرازها المعماري الذي يجمع بين الابنية الحديثة والقديمة والمساجد ذات المآذن المرتفعة‚ ويكفي استنبول فخرا انها مشهورة بكونها مدينة الألف مئذنة‚
عندما تقف في مكان ما في هذه المدينة الواسعة التي يعتقد البعض انها عاصمة تركيا نظرا لكونها اهم مركز تجاري وبشري في البلاد‚ فانك تحار الى اين ستتجه‚ فالاماكن التي تستحق الزيارة عديدة ومتنوعة ولا يكاد المرء يتذكر مكانا يروق له حتى تقفز الى ذهنه عشرات الاماكن الاخرى التي لا تقل جمالا وسحرا‚
فالقصور والقلاع القديمة منتشرة في كل مكان والمساجد العتيقة التي بنيت في عهد الفتوحات الاسلامية منتشرة في مختلف ارجاء المدينة وان كان اشهرها على الاطلاق المسجد الازرق الذي يأتيه السياح من كل انحاء العالم لرؤية روعة هندسته المعمارية وسحر تصاميمه‚
وبعيدا عن المسجد الازرق الذي بناه السلطان احمد وعن كنيسة آيا صوفيا التي تقف امامه مباشرة في مشهد يجسد التعايش المسيحي الاسلامي‚ فان زائر استنبول سيجد متعة ما بعدها متعة في اكتشاف تلك الحضارة القابعة على شاطئ مضيق مرمرة والتي تجسد بشكل كبير الحياة في تركيا بكل ما فيها من بساطة وعبق الماضي وبكل ما يكتنفها من متطلبات الحياة الحديثة ومنغصات البيئة العصرية فإذا ما خرجت مساء لتتمشى على شاطىء المضيق الذي أخذ بألباب العديد من الأدباء والشعراء وكتبت حوله عشرات الروايات والقصص فإنك ستجد نفسك أمام عالم ممتد بلا نهاية فمن المطاعم إلى محال بيع التحف والأثريات مرورا بالمقاهي والمتنزهات والباعة المتجولين فإن الزائر قد يجد صعوبة في استيعاب هذا المزيج الذي يجمع بين الماضي والحاضر والقديم والجديد والأصالة والمعاصرة في لوحة واحدة متناغمة لا يمكن ان يصيغها بهذا الجمال سوى التاريخ نفسه‚
أما الشعب التركي فإنه في مجمله ودود وطيب ولطيف المعشر وهو ما يمكن أن يلمسه المرء بسهولة عند التعامل مع الباعة والمواطنين العاديين ولكن ذلك لا يمنع وجود فئة قليلة جدا لا تعرف في هذا العالم سوى تركيا ولا تلقي بالا لغير الأتراك‚
ورغم ان الاسعار في تركيا بشكل عام واستنبول على وجه الخصوص مرتفعة نسبيا عند مقارنتها بمعدل دخل الفرد التركي إلا أن الزائر قد يجدها مناسبة إلى حد كبير بالنسبة له فعلى سبيل المثال يمكن بكل سهولة ودون عناء الإقامة في فندق من فئة الأربع نجوم في مكان جميل في استنبول يطل على البحر بسعر لا يتجاوز «65» دولارا لليلة الواحدة أما سعر وجبة الغداء لشخصين في مطعم راق فإنه يتأرجح حول حدود الـ «20» دولارا‚
أما في البازار القديم فحدث ولا حرج‚ واعتقد جازما ان كل هواة التسوق وحتى مبغضيه سيقضون ساعات طوالا هناك دون ان يشعروا بمرور الوقت لضخامته وتنوع معروضاته وروح الماضي التي تسكن جنباته والانطباع الأول الذي ينطبع في عقل كل زائر لهذا السوق هو ان شكل حركة التجارة فيها لم يختلف كثيرا منذ بدء العمل فيه منذ وقت طويل‚
فالداخل إلى هذا السوق ان لم يكن معه مرافق سيجد نفسه يدخل من شارع إلى آخر ومن زقاق إلى آخر بلا نهاية وفي كل جزء فيه يجد شيئا جديدا يشده لقضاء وقت أطول فهنا التوابل والحلويات وهناك الذهب والمجوهرات وفي جزء ثالث التحف والأثريات وفي مكان آخر الملابس والجلديات‚
أما الاسعار فإنها تخضع أولا وأخيرا لطول نفس المشتري وقدرته على الوصول بالسعر الى حد معقول‚ واذكر مثلا ان شخصا كان يود شراء حقيبة نسائية من ماركة عالمية مقلدة باتقان‚ فبقي نحو 5 دقائق يفاصل البائع بين اخذ ورد الى ان حصل عليها اخيرا بسعر لا يتجاوز الـ 30 دولارا رغم ان السعر الذي طلبه البائع في البداية تجاوز سقف الـ 80 دولارا‚ اما هواة الفضيات والنحاسيات فان اغلب الظن انهم سيزورون البازار مرارا وتكرارا لشراء ما يريدون فمحال بيع الفضيات لا تعد ولا تحصى‚ ولأن الاتراك مشهورون باتقان الحرف اليدوية بشكل استثنائي فان المرء لا يكاد يتوصل الى قرار فيما يود شراءه نظرا لتعدد الاشكال والموديلات‚
ناتاشا أولغا في كل مكان
-----------------
والملاحظة التي لا يمكن ان تفوت زائر استنبول هي انتشار مواطني روسيا واوكرانيا وبيلاروسيا وغيرها من دول اوروبا الشرقية في كل مكان في المدينة فضلا عن ان العديد من الباعة في المحال التجارية‚ وخاصة تلك التي تبيع الملابس والاكسسوارات هم من الروس اما السبب فهو ان العديد من التجار من دول الكتلة الشيوعية السباقة اكتشفوا ان التجارة مع تركيا مربحة جدا وتدر عليهم دخلا كبيرا‚ نظرا لارتفاع اسعار الملابس بشكل عام في تلك الدول‚
اذن لا تستغرب عزيزي السائح اذا رأيت ان العديد من الباعة في المحال التجارية يحملون اسماء مثل اولغا وناتاشا وكاتيوشا وفرانيسكا‚
ولكن هذا التدفق حمل معه بعض الاوجه السلبية بالنسبة لبعض شرائح المجتمع‚ خاصة مع تكرار حالات الزواج بين اتراك واوروبيات شرقيات نظرا لما ينطوي عليه هذا الزواج من قلة التزامات مادية‚
الهوى اوروبي‚‚ المزاج شرقي
---------------------
اما المجتمع التركي بشكل عام فان اقرب وصف يمكن ان يطلق عليه هو ما قرأته في احد التحقيقات حول تركيا من كونه اوروبي الهوى شرقي المزاج‚ فمظاهر الحياة الاوروبية الحديثة تبدو واضحة جلية في الشارع التركي ابتداء من الملابس مرورا بقصات الشعر وانتهاء بالاختلاط بين الشبان والفتيات‚ وفي المقابل‚ فان هناك شريحة اخرى يصعب القول بانها تشكل اقلية وتتميز بالتمسك بالاصالة والتشبث بالتقاليد‚ وتواجه هذه الفئة صعوبة كبيرة بالحفاظ على خصائصها نظرا لكون الغالبية العظمى من سكان تركيا من الفئة العمرية الصغيرة‚ التي يروقها شكل الحياة الغربية‚
السياح العرب
---------
رغم ان عدد السياح العرب لتركيا قد ارتفع بشكل كبير خلال السنتين الماضيتين وتحديدا منذ هجمات الـ 11 من سبتمبر على الولايات المتحدة الأميركية الا ان عددهم لا يزال دون المستوى المأمول‚ وتشير احصائية خاصة بمدينة انطاليا اعتمادا على جنسية قاطني الفنادق ان عدد السعوديين الذين زاروا تلك المدينة في احد الاشهر بلغ 2 فقط مقابل آلاف الإسرائيليين وعشرات الآلاف من الألمان‚
أما في استنبول فان الحضور العربي أكثر بروزا اذ يندر ان تدخل مقهى لشرب النرجيلة مثلا دون ان تسمع اشخاصا يتحدثون العربية‚ كما انه من المألوف رؤية العائلات العربية والخليجية خصوصا في الاسواق والمقاهي والمطاعم والمتنزهات العامة‚
ولعل ازدياد عدد السياح العرب الذين يزورون تركيا في الفترة الأخيرة يعود إلى جمال طبيعتها وثرائها الحضاري والتاريخي وطيبة شعبها والرخص النسبي للاسعار هناك‚
# توضيح لابد منه #
لابد لاي شخص منصف يحب تركيا ويتمنى لقطاعها السياحي النماء والازدهار ان ينبه إلى بعض الملاحظات التي تحتاج إلى بذل المزيد من الجهد لتلافيها والعمل على معالجتها‚ فكما ذكرت في الحلقة القادمة تمتلك تركيا اسطولا جويا ضخما وقد حققت العام الماضي ارباحا جيدة جدا‚ والكثير من طائرات الناقل التركي حديثة‚ فضلا عن ان الخطوط التركية تملك سجلا جيدا في الامان‚ ولكن لابد من ابداء اهتمام أكبر بأمور لا تبدو مكلفة مثل ضرورة وجود وسائد واغطية لجميع الركاب ومراعاة وجود صحف اجنبية وحتى عربية للركاب غير الاتراك وضرورة التنبيه على بعض المضيفات بوجوب التعامل مع المسافرين بشكل لائق‚
ومن الملاحظات الأخرى التي لمستها والتي لم اتوقع مشاهدتها في بلد مثل تركيا ان الاتصالات الدولية صعبة بعض الشيء رغم توافر كابينات الاتصال عند كل مفرق وزاوية وفي بعض الاحيان كنت اضطر لتكرار المحاولة أكثر من 15 مرة حتى يتسنى لي «إمساك الخط»‚
ويبدو ان هذه المشكلة التي لا ادري ان كانت مرتبطة بظرف ما ام دائمة تمس قطاع الانترنت الذي يعاني هو بدوره من بطء غير عادي‚ لدرجة ان المرء قد يضطر للانتظار في بعض الاحيان ما بين 3 ــ 5 دقائق حتى يتمكن من فتح صفحة واحدة‚
أخيرا‚ لا يجادل اثنان في ان تركيا بلد جاذب للسياح بطبيعته‚ بمعنى انه حتى لو لم تبذل جهود كبيرة لجذب السياح‚ فان السياح سيتوافدون باعداد كبيرة لانهم يدركون انهم في ـــــتركيا سيجدون انفسهم في حضرة التاريخ وبين ثنايا ركام حضاري هائل وممتد إلى عصور ما قبل المـــيلاد‚