ثم يتولى فريق منهم
الآيات الواردة في القرآن الكريم في حق أهل الكتاب كثيرة جداً، تبين موقفهم من الإسلام ورسوله الكريم، وتتحدث عن طباعهم وسلوكهم وطبيعة العلاقة بينهم وبين المسلمين.
ومن الآيات التي تحدثت عن بعض مواقفهم من قضية تحكيم كتاب الله الكريم قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} (آل عمران:23)، فقد بينت هذه الآية موقف اليهود من قضية تحكيم كتاب الله بينهم. فما هو سبب نزول هذه الآية الكريمة؟
ذكر المفسرون أربع روايات تتعلق بسبب نزول هذه الآية، هي على النحو التالي:
الرواية الأولى: روى الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْراس - الموضع يُدْرس فيه كتاب الله - على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟! قال: على ملة إبراهيم ودينه، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديًّا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} (آل عمران:23-24). هذه الرواية ذكرها معظم المفسرين، وعليها عول أكثرهم في سبب نزول هذه الآية.
الرواية الثانية: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (بيني وبينكم التوراة، فإن فيها الرجم، فمن أعلَمُكُم؟) قالوا: عبد الله بن صوريا الفدكي، فأتوا به، وأحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم، وضع يده عليها، فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله! فرفع كفه عنها، فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما، فرُجما، فغضبت اليهود - لعنهم الله - لذلك غضباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية. هذه الرواية ذكرها الرازي في تفسيره.
الرواية الثالثة: نقل القرطبي عن النقاش أن الآية نزلت؛ لأن جماعة من اليهود، أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هلموا إلى التوراة، ففيها صفتي)، فأبوا.
ونحو هذا ما ذكره الرازي: أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة، والدلائل الدالة على صحة نبوته موجودة فيها، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوته، فأبوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى: أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك؛ فلذلك قال الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} (آل عمران:93). وهذه الآية على هذه الرواية دلت على أنه وُجِدَ في التوراة دلائل صحة نبوته صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، لسارعوا إلى بيان ما فيها، ولكنهم أسروا ذلك.
الرواية الرابعة: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ وذلك لأن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل، وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل، وكانوا يأبون ذلك.
والروايتان الأخيرتان أشبه أن تكونا تفسيراً للآية من أن تكونا روايتين تبينان سبب نزولها.
ومهما يكن، فهذه الروايات لا تعارض بينها، وهي في المحصلة تبين موقف اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم وكتابه، وهو موقف الرافض لما جاء به، والمنكر لما دعا إليه، على الرغم مما جاء في كتابهم التوراة من صفات تبين حقيقة ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من رب العالمين إلى الناس أجمعين