¤ô۞ô¤ مصلحة التديُّن أم تدين المصلحة ؟! ¤ô۞ô¤
(قراءة شرعيَّة في واقع كثير من المجتمعات مع قضيَّة التدين)
الحمدُ لله وحده، وسَمِعَ الله لمن حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعدُ:
فأثناء مسيرة الإنسان في هذه الحياة لا ينفكُّ- طوعًا أو كرهًا - عن مطالعة طبائع الناس، وطرائق الشعوب، وتعاملات الأمم بعضها مع بعض، غير أنَّ الهم الذي يحتوي مجامع قلب كلِّ مؤمن، حينما يُشاهد ترهل حالة التديُّن داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وكذا في أقاليم إقامة الجاليات الإسلاميَّة في الدول غير الإسلامية!
لقد صار كثيرٌ من الناس يتعاملون مع الدين لأجل مصالحهم الخاصة، وذلك لأنَّ التديُّن عندهم عادة لا عبادة، وعرفًا وتقاليد لا عقيدة وشريعة، وتديُّن مصلحة فحسب، لا قيامًا بواجب التدين ومصلحة القيام به!
لا جرم أنَّ ما يدعو إليه كثيرٌ من الناس الآن في طبيعة تعامُلهم مع التديُّن يُخالفُ تمامًا ما كان يدعو إليه وينصاع له جيلُ الرعيل الأول من صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين تشرفوا بالقرآن المُنزَّل في وقتهم، فلم يكنْ هذا الدينُ عندهم إلاَّ على حالته التي عُرِف بها: (الدين المنَزَّل)، بعيدًا عن أن يكونَ مِن قبيل المبدَّل أو المؤوَّل، ولهذا نرقب حالة سماع الصحابة للوحي، فلا تنطق ألسنتهم إلا بقولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
إنَّ مَنْ فَهِم حقيقة الإسلام يعلم أنَّ هذا الدين تكمُن رَوْعتُه في حيويته، وطلاوته في فهم معاني آياته، وسعادة أمَّة الإسلام بالتزام ما أنزله الله تعالى على رسوله محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ لو أنَّ كل شخص أخَذ مِن الدين ما يشتهيه قلبُه، وتهواه نفسه؛ لما شعر بطعم التديُّن الحقيقي الذي يشعر به كلُّ مَنْ تمسَّك بأهداب الدين، حيث يشعر بطعم الإيمان وحلاوته التي لا يعرفها إلا من ذاقها بروحه ونفسه!
تقريرٌ وتنويرٌ
لقد قرَّر عُلماء الإسلام أنَّ كلَّ خيْرٍ للعباد يكْمُن بطاعة الله - عزَّ وجل - وكل شر فإنَّه يجتمع حول معصيته - سبحانه وتعالى.
إنَّ شرائع الإسلام لم تُشرَع إلا لإسعاد البشريَّة؛ ليستشعروا أثناء تطبيقهم لها سرورَ أنفسهم وحُبُورها، ومُتْعَة حياتهم وهناءها، وأنَّ مَنْ أَعْرَض عن ذِكْر الرحمن؛ فالشيطانُ قرينُه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36، 37].
ومن خالف شِرعة الإسلام فسيكون في حياة صعبةٍ، ونفسيَّةٍ تعيسةٍ مُلازمة له.
فقد قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124، 126].
إذا عُلِم هذا، فالمؤمن لا يعيش في هذه الحياة إلا ببسمة الإيمان، وتذوقه لحلاوة عبادة الإحسان، وتزكية قلبه بمطالَعة القرآن، ومشاهدة بديع الأكوان، ويرى أنَّ قيامَه بهذه العبادة سبيل سعادته، وأنَّ إعراضَه عنها سبب ضلاله وشقائه، وأنَّ كلَّ خيْرٍ فيما شَرَعَهُ الله تعالى، وكل شر فيما حذَّر منه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالمصلحة كل المصلحة للنفس البشرية كامِنَةٌ في شريعة الإسلام.
شريعة الإسلام يقوم أساسها على المصلحة
إنَّ هذه الشريعة اعتَبَرَتِ المصلحة بجوهرها المقاصدي، ولم تُهمل مصالح العباد في الدارين، فليست المصلحة الحقيقيَّة للنفس البشرية خارجة عن مدارك المنظور الإسلامي، فلقد جاءت الشريعة بكُلِّ مصلحة لنا، وأبْعدَتْنا عن كلِّ مفسدة قد تضرنا، حتَّى لو كان في المفسدةِ جَلْب مصلحة؛ لأنَّ دَرْءَ المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح.
يقول الإمام الغزالي: "أما المصلحة فهي عبارةٌ في الأصل عن جلْبِ منفعةٍ أو دفع مضرَّة؛ ولسنا نعني بها ذلك؛ فإنَّ جلب المنفعة أو دفع المضرة مقاصدُ الخَلْق؛ وصلاحُ الخَلْق في تحصيل مقاصدهم، لكنَّا نعني بالمصلحة: المحافظةَ على مقصود الشرع"([1]).
ويقول شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة: "والقولُ الجامع: أنَّ الشريعةَ لا تُهمل مصلحةً قط، بل اللهُ تعالى قد أكْمَل لنا الدِّينَ وأَتَمَّ النِّعْمَة"([2]).
ويقول الإمامُ ابنُ القَيِّم: "إنَّ الشريعةَ مبناها وأساسُها على الحِكَم ومصالِح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالِحُ كلُّها، وحكمةٌ كلها، فكلُّ مسألة خرجتْ عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضِدِّها، وعن المصلحةِ إلى المفْسَدَةِ، وعن الحِكْمة إلى العَبَث، فلَيْسَتْ من الشريعة، وإن أُدْخِلَتْ فيها بالتأويل"([3]).
وقال الإمام الشاطبيُّ: "المعلومُ من الشريعة أنَّهَا شُرِعَتْ لمصالح العباد، فالتكليفُ كلُّه، إمَّا لدَرْءِ مفْسدةٍ، وإما لجلْبِ مصلحة، أو لَهُما معًا"([4]).
هذا نَزْرٌ يسير مِمَّا سطَّره عددٌ من مشاهير علماء الإسلام؛ كالغزالي، وابن تيميَّة، وابن القيم، والشاطبي، حيال هذه القضيَّة التي أوضحتْ كمال هذا الدين، وأنَّه دين أتى للبشرية بكُلِّ ما يسعدها من مصالحهم التي قد ارتضاها لهم اللهُ - تبارك وتعالى - فكلُّ ما جاء في شِرعته فهو خيْرٌ ومصلحة للعباد في الدارَيْن.
إذا عَلِمَ العبدُ أنَّ الشريعة لن تُقَدِّم له إلا كُلَّ نافع ومصلحة، ولن تُبعد عنه إلا كلَّ ضارٍّ له ومفسدة، وأنَّ لهذه الشريعةِ الإسلامية مقاصدَ ساميةً، وأسراراً بديعة - فإنَّه سيُدرك عظمتَها وروعتها، لكن للخطر المنْهَجيَّ في طريقة التصوُّر والاستدلال - ظَنَّ بعضُ الأشخاص أنَّ مصلحتَهم تكْمُن في اختياراتهم النفسيَّة ورغباتهم الشخصيَّة، ولرُبَّما رأى أحدهم الخير في ارتكاب ما يظنُّه مصلحةً؛ مسوغًا ذلك بأنَّه: قضيَّة خيريَّة، وضرورة شرعيَّة، لكنَّها في حقيقةِ أمْرِها لا تنْفَصِل عن أن تكونَ مفسدةً كبرى في حقه، ولربما يُخالف نصوص الشرع بحجَّة المصلحة؛ فيقع في المفسدة الكبرى، وهي: مُخالَفة شريعة رب العالمين، مع أنَّه - سبحانه وتعالى - يعلم سِرَّ المصلحة فهو القائل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ويقول عزَّ مِن قائل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وذلك لأنَّ "المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالِقُها وواضعها، وليس للعبد بها علمٌ إلا مِن بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثرُ مِن الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه مِن وجهٍ لا يُوَصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلاً لا آجلاً، أو يوصله إليها ناقصةً لا كاملة، أو يكون فيها مفسدةٌ تربو في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خَيْرُها بشرها"؛ كما يقول الإمام الشاطبي([5]).
نماذج من طرائق الناس في تديُّن المصلحة
لن أجعل ما هو مكتوب في هذه الورقة مجرد خيال أسبح به في الفضاء، دونما نظر في الواقع المعيش، فإنَّ المُشكل حقًّا أنَّ كثيرًا من الناس حينما يتعامَلون مع نُصوص الشريعة فإنَّهم يتعامَلون فيها بحسب أهوائِهم ومَصالِحهم الشخْصِيَّة، ولْنَضْرِب على ذلك أمثلة، فلعله يتضح المقال بذكرها:
(1)
هنالك مَن يتعامل مع قضية الميراث بمبدأ: (حيثما كانت مصلحتي فثمَّ ديني)، فتراه يَحْرِم بعض قريباته من الميراث؛ بحجَّة أنَّ المرأة هنالك مَن يعولها ويُنفق عليها، وأنها لا تعمل، وأنَّها أقل قدرًا من الرجال... إلى غير ذلك من الأقوال التي تُلقى على عواهنها!
قِبَالَة ذلك لو أنَّ زوجته حُرِمت الميراث أو أنَّ زوج ابنته مات، وحَرَمها أهلُها من الميراث لانْقَلَب الحال رأسًا على عقب، وبدأ يُنادي بتحكيم شريعة الإسلام، وهو نفسه قد حارب إعطاء المرأة ميراثها، ولم يُعطِ لأخواته حقهن من الميراث، مع أنَّه كان يُذكَّر بالآيات القرآنيَّة، ومع هذا يكون حاله كما قال تعالى:{وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7]، ويتحجَّجُ بأنَّ عاداتهم وتقاليدهم ورسومهم وأعرافهم لا تُعطي المرأة ميراثها!
وبهذا نستذكر قولَ الحق - تبارك وتعالى - في سورة النور: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 48 - 51]
(2)
كثيرٌ من طلبة المدارس والجامعات لا يُصَلُّون الصلوات الخمس في المسجد، وبعضُهم قد لا يُصَلِّيها أصلًا، فإذا جاءت الاختباراتُ النهائيَّة أقبلوا إلى المساجد يُصَلُّون فيها ركَّعًا سجدًا، وعلى رأسها صلاة الفجر، وحالما تنتهي الاختباراتُ يُودِّعُون هذه المساجد إلى غيْرِ رجْعةٍ! أو لربما يعيدون الكرَّة فيها إن كانتْ هنالك اختباراتٌ قادمة في الجامعة، وقليل منهم من يرتبط بالمسجد بعدما يذوق حلاوة الطاعة فيه!
والطالبُ يعلم أنَّه قد قدم لهذا المسجد لكي يدعو ربه - جل جلاله - وَيَتَقَرَّب إليه بالعبادة، لكنَّه حينما ينال الشهادة، يرجع كأنَّ شيئًا لَم يكن، وقد كان يعلم أنَّه ما أتى المسجد إِلاَّ لسؤال ربِّه مصلحتَه؛ لكي ينجح في اختباراته!
وقت كتابتي لهذه الورقة تذكرت شخصاً كنتُ أعرفه بملازَمَتِه للصلاة في المسجد عدَّة سنوات، حتَّى إنه كان يحضر للمسجد قبل الأذان، وكُنت أعلم أنَّه (عاطل عن العمل)، وحينما كان يسألُه بعضُ المُصَلِّين كان يَشْكُو لهم حالتَه؛ فيقوم أحدُهم بإعطائه ما تَيَسَّر معه من المال، وحينما منَّ الله عليه بالعمل كمُراقبٍ على عمَّال يقومون ببناء عمارة قرب المسجد؛ هَجَر الصلاة في المسجد ولم يَعُدْ يأتيه إلاَّ نادرًا، مع أنَّه بإمكانه الذهاب إليه! ولربما نصحته فيبدأ يتعلَّل ويتعذَّر بأعذار واهيةٍ، فقلتُ في نفسي: ما أسوأ مَن يتعلَّق بربِّه عندما يُريد مصلحة منه، وينساه حينما تتحقَّق تلك المصلحة!
ما أشْبَهَ هذا بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج: 11].
(3)
نعوذ بالله أنْ نكونَ مِمَّن قال تعالى فيهم: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].
كثيرٌ من الناس لا يلْجَؤون إلى الله بالدعاء إلاَّ في وقت الشدَّة، وينسون دعاءه وقت الرخاء، ولربما حينما كانوا يُذكرون بالدعاء وقت الرخاء لا يأبهون بمَن كان يَتَحَدَّث إليهم في ذلك، ومع هذا فإنَّهم يُلحُّون على الله بالدعاء ويُنادونه : (يارب، يارب) لكنَّ مطعمهم حرام، ومشربهم حرام، وغُذُوا بالحرام، وحين يرون أنَّ الله لا يستجيب دعواتهم، يسألون مستنكرين: ندعو الله، فلا يستجيب لنا، فلماذا؟!
ولعلَّهم يظنون أنَّ الله تعالى كان غافلًا عمَّا يعملون ويفعلون في حقِّه، حينما كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، ويعيثون في الأرض فسادًا، ويشربون الحرام، وقد يكونون على متْنِ الطائرة التي تحلق بهم في الأجواء وهم في لَهْوِهم وعبثهم يرتعون!
هؤلاء يُذكِّرونني بقولِ الإمام أيوب السَّخْتِياني: "يُخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون عليَّ"([6]).
إنَّ مَن يتعامل مع الله تعالى على مبدأ: (سأفعل لك حتَّى تفعل لي) - ولو لَم ينطقْ بها لسانُه فَفِعلُهُ أشد وأنكى! - فإنَّه لَم يُقَدِّر الله تعالى حقَّ قَدْره، ولَم يعلم أنَّ الله تعالى غَنِيٌّ عنه وعن عبادته، بل نحن الفقراء إليه - سبحانه - المُحْتَاجُون إليه في السِّرِّ والعلانية، والسَّرَّاء والضَّرَّاء.
وبتأمُّل شخصيٍّ في حال هؤلاء: فإنَّهم في الغالب يتعامَلون مع الناس بِمِثْلِ هذه الطريقة، فَيَتَقَرَّبُون إليهم ويَتَوَدَّدُون لأجل مَصَالِحهم الشخصية، فما أن تَنْتَهي مصلحتُهم حتَّى يقلبوا لهم ظَهْر المِجَنِّ، أو لا يعرفونهم، ويظن هؤلاءِ الأغبياءُ أنَّهم وإن استطاعوا فعل ذلك مع الناس، فكأنَّهم يستطيعون فعل ذلك مع رب الناس، وهو المُطَّلِعُ على خفاياهم!
ونَسَوْا أنَّ الله تعالى يعلم ما تُضْمِرُه القلوب وما تُخْفِيه الأنفس، والإنسان كذلك يعلم عن نفسه مُرادها، ويدرك سبب فعله لمرضاة ربه وإحجامه عن طاعة ربه، حتَّى لو أقسم الأَيْمان المغَلَّظَة، فهو يُدرِك حقيقةَ الأمر؛ كما قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [القيامة: 14، 15].
والنَّصُّ الشرعي يوضِّح لنا هذه الخاصيَّة المهمة في علاقة العبد بربه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله لا ينْظُر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛ أخرجه مسلم.
(4)
عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنه سمع رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُول عام الفتح: ((قَاتَلَ الله اليَهُودَ؛ إنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوه، فَأكلُوا ثَمَنَهُ))؛ متَّفَق عليه.
إنَّ دعوة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على يهود بأن يقاتلها الله، ليست كدعوة أي أحد؛ فهو رسول الله، وأن يدعو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ربَّه أن يتولَّى قتال يهود لهو - وربي - أمرٌ خطير للغاية، وقد ذكر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ من أسباب الدعاء على يهود: تحايُلهم على الأوامر الشرعيَّة، فحينما حرَّم الله تعالى عليهم شُحُوم الميتة أذابوها ثم باعوها زيتًا، فأكلوا ثمنها!
والمحرَّم يبقى محرَّمًا لكنَّ القلوب المستوحشة من طاعة الرحمن؛ لن تكون إلاَّ مأوى لوساوس الشيطان؛ حيث يلْعَب بِعُقُولهم، ويقرقر في آذانهم، ويُوَسْوِس في خلجات صدورهم؛ فيستجيبونَ له طائعين بالقيام بهذه الحيلة الخبيثة.
لهذا يُحذر الإمامُ ابن قيم الجوزية من التوثُّب على محارم الله باسم الحيل، فيقول: "فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكالَهُ أنْ يحذرَ استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأنْ يَعْلمَ أنه لا يُخَلِّصُه من الله ما أظْهَرَهُ مكرًا وخديعةً مِنَ الأقوال والأفعال، وأن يعلمَ أنَّ لله يومًا تُبلى فيه السرائر، ويُحَصَّل ما في الصدور، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون"([7]).
إنَّ حيَل الناس في هذه الأزمنة كثيرة جدًّا؛ فمنهم المتلاعبون بأموالهم بطُرُق قد لا تخطر على البال؛ ويعتقدون أنَّهم بمِثْل هذه الأساليب مُحتَرِفون في العمل المالي، ومتَمَيِّزون بتحايُلهم، وقد يجلس أحدهم معك يُحاول إقناعك أنَّه مِن خلال ممارساته لأنشطته الماليَّة لم يقعْ في الربا أو الغَرَر، أو الظلم للآخرين بأكل أموالهم بالباطل؛ وما درى - أو قد درى بيد أنَّه يُكابِر - أنَّه يفعل الحيل الرِّبويَّة وغيرها بكلِّ وضوحٍ وسهولة لمن يدرك حقيقة المال المحرَّم، لكن ما أقبح المال حين يُفسد الروح؛ فيكون البصرُ أعمى، والبصيرة صماء عمياء!
وكذلك الحال في المسابقات التجارية، فما أكثر المَيْسر والقُمار فيها متعاملين فيها بطرُق خفيَّة وهم يعلمون أنَّ المآلَ واحِدٌ، وإن كان قد اختلف الحال!
وتراهم يَحْتَجُّون بفتوى شرعيَّة صدرتْ من ذلك العالِم التي أجازتْ ضربًا من المسابقات التجارية والمقيدة بضوابط وشروط محددةٍ، فتراهم يأخذون المسألة على عمومها دونما تطبيق لما أصلَّه ذلك العالِم، والسبب في ذلك أنَّ مصلحتهم الباطلة توافقتْ مع هوى أنفسهم، فضلُّوا عن سبيل الله، وقد حذَّر المولى من ذلك فقال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، ثمَّ توعَّد تعالى مَن اتَّبَع هواه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
إنَّ هؤلاءِ القوم الذين يأخذون ما راقَ لَهُم من فتاوى العلماء العامَّة، ثمَّ يُجْرُون أحكام إباحتها على كثير مِن معاملاتهم ومسابقاتهم وتصرفاتهم الماليَّة، ليس لهم هَمٌّ من جرَّاء ذلك إلاَّ رواج سلعهم، وقد يُحاولون التلاعب بأقوال العلماء لترويج باطلهم - وقد حصل هذا مرارًا، واشتكى بعض أهل العلم من كثيرٍ من هذه الأعمال الصبيانيَّة ! - إذ إنَّهم يعلمون أنَّه لولا فتوى ذلك العالِم لما راجَتْ بِضاعتُهم ولما نَفَقَ سُوقُهُم، ولربما تكون الفتوى عامة أو خاصة في شيء ما؛ فيأتي هؤلاءِ ويُلبِّسون على الناس دينهم، فيكونون ممن لبسوا الحق بالباطل، والله تعالى يقول: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، وهم بالفعل يعلَمُون ذلك، ولهذا فكثيرٌ من هؤلاء لا يطيقون ربما سماع دُرُوس العلم وفتاوى العلماء التي تُبيِّن أنواعًا مِن الانْحِراف الاقتصادي والمالي والمصرفي الذي يقومون به، بحجَّة أنَّهم مُتَشَدِّدون ومتَنَطِّعُون، ولربما همزوهم ولمزُوهم؛ لأنَّ مَصْلَحتَهم تَوافَرَتْ على ذلك الشَّيْءِ الذي أخذوا به فقد أخذوا من الدين ما تَشْتَهِيه أنفسُهم؛ {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
(5)
في هذه الفقرة سأتحدث عن موقفٍ غريب وقصَّة حقيقيَّة وقعتْ معي، فلقد كنتُ قاعدًا في المسجد أتدارس مع بعض الإخوة مِن طلبة العلم كتابًا من كُتُب العلم، وأثناء استغراقنا في ذلك، رأيتُ رجلًا دخل المسجد، وصلَّى صلاة العصر التي تبدو أنَّها فاتَتْه، وبعد أنِ انتهى من صلاته، ورآنا قعودًا نتدارس أحاديث المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكنتُ ألحظه بعيني أثناء التفاته إلينا، وأقول في نفسي: عند هذا الرجل أمرٌ ما، خصوصًا وهو يرمقنا كثيرًا ببصره!
قام هذا الشخص من مكانه، واتَّجه إلينا وتحدَّث معي قائلًا: يا شيخ لدي سؤال، وأريد الجواب الشافي الكافي عنه؛ لأنَّ هنالك موضوعاً قد حيَّرني أنا وأختي، وأريد الجواب عنه لو سمحت!
فقلت له: استعن بالله وألق السؤال.
فقال لي: إنَّ أختي قد وضعتْ مالًا لها في بنكٍ رِبَوِيٍّ، وضعتْ فيه ما يقارب مائتي دولار في حسابها وجعلته في بند (حساب التوفير).
وبعد مدَّة من الزمن اتَّصل أحد موظفي البنك بها، وقال لها: إنَّك قد ربحتِ جائزة كبرى مقدارها: 150 ألف دولار، وطلب منها المجيء لاستِلامها، والاحتفال بهذه الجائزة الكبرى، والتي حازت عليها دون أن تشارك في مسابقة! بل كان هنالك سحبٌ من البنك على أرقام الحسابات، فكان مِن حظها الفوز بهذه الجائزة!
ومضى يقول لي: يا شيخ، ما رأيُك في استلام هذه الجائزة؟ وأرجو أن تجيبني جوابًا أنتَ متأكد منه؟!
في الحقيقة أثناء حديثِه معي، كنتُ أُفَكِّر في الطريقة التي سأجيبه بها؛ لأنَّ الموضوعَ واضحٌ بالنسبة لي، وخصوصًا حينما وضعتْ أختُه مالَها في حساب التوفير في البنك الربوي!
بعد ذلك استعنتُ بالله في جواب الرجل، وقلت له: والله يا أخي لأجيبنك جوابًا لربما يكون أثقل عليك وعلى أختك مِن حمل جبل (أُحُد)!
فاستغرب الرجل، وقال لي: مه يا شيخ، ألهذه الدرجة، وما جوابك؟!
فقلتُ له: هذا المالُ الذي فازتْ به أختُك مالٌ محرَّم وهو سُحت، لا يجوز انتفاعُها به مطلقًا، وقد وقعتْ أختُك في الحرام كذلك مذْ وضعتْ مالَها في الحساب الربوي!
في الحقيقة وأنا أتحدَّث للرجل بجوابي هذا، كنتُ ألحظ تفاعُلَه الحركي والنفسي مع جوابي، حيث رأيتُ حماليق عينيه تدور (استغرابًا)، ويبدو لي أنَّه وأخته يعيشان في وضع ماديٍّ عادي، فلم تكنْ أخه تَتَوَقَّع أن تفوزَ بمبلغٍ هائل كهذا بالنسبة لها، خصوصًا أنَّ الخبرَ كان بالنسبة لها شيئًا مفاجئًا، فلا هي بالتي شاركتْ بمسابقة، ولا ما يحزنون!
لكن الرجل قال لي – وهو شِبهُ مصدومٍ من الجواب -: يا شيخ، أأنتَ مُتأكِّد من جوابك؟
قلت له: نعم، ولكنِّي أرى أن تستلمَ أختُك المال؛ لكي لا يكون راجعًا للبنك وتصرفه في مصالح البر والإحسان، ولا تعتبر ذلك صدقة منها، فإنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وأضيف إلى ذلك أن تسحبَ أختُك مالَها من البنك الربوي إلى بنكٍ إسلامي، فإن لَم يَتَيَسَّر لها ذلك، فعليها أن تضعَ مالَها في الحساب الجاري لا حساب التوفير!
ومع هذا كلِّه، فيبدو أنَّ الرجل مِن وقع الجواب الصادم له - والذي بالفعل صدق حدسي حينما قلتُ: إنَّه قد يكون أثقل عليه مِن حمل جبل أحد - فالرجل لم يكنْ يُفَكِّر معي، فقد كان يُفكِّر في أمر آخر، حيث باغتني بقوله: لو سمحتَ هل من الممكن أن تسأل شيخاً ثانياً لربما يكون له رأي آخر؛ لكي نتأكَّد؟!
ومضيتُ مع ذلك الرجل قُدُمًا، وقلتُ له: لا حرج، سأُحيلك على شيخٍ آخر من العلماء، وهو متَخَصِّص في مجال المُعاملات المالية لعلَّه يفيدك.
اتَّصَلْتُ على الشيخ وأنا جالس مع هذا الأخ، وبعض إخواني من طلبة العلم، وقلتُ له: يا فضيلة الشيخ، السؤال كذا وكذا، والرجل يجلس بجانبي، وهو يسمع جوابك، فما رأيُك في استلام أخته للمال، هل يجوز أو لا؟
فغضب الشيخ، وقال: قل لهذا الرجل: هذا المال حرام حرام حرام! وأنهيتُ المكالمة بعد شكره.
رأيتُ هذا الرجل بعدما سَمِع مني ومن ذلك العالِم تلك الإجابة؛ حيثُ قام مباشرة وهو يقول لي: شكرًا يا شيخ (أتعبتك معي)، ومضى خارجًا من المسجد، وشعرتُ أنَّه كذلك غير مُقتنع بكل ما جرى، ويبدو أنَّه كان يعيش أزمةً نفسيَّةً حادَّةً!
إنَّ ما أرمز إليه بعد سرد هذه القصَّة أنَّ كثيرًا من الناس يُحاولون الذهاب لعدد من أهل العلم وطلبته، لكي يعثروا على جوابٍ يناسب المقاس الذي يُفصِّلونه هم، ولربما يسأل السائل ويحاول الإجابة؛ لكي يستنطق الشيخ أو المفتي بنفس الإجابة التي يُريدها، وللناس في مثل هذه الأحابيل فنونٌ لا تخفى على ذي عينين مِمَّن قام لإفتاء الناس والإجابة عن أسئلتهم ومشكلاتهم.
إنَّ مَن يَقُوم بمِثْل هذه التصرُّفات، حتَّى لو سأل عددًا مِن أهل العلم، فسيكون قصارى جهده استصدار حكم، واستخراج تأشيرة جواز من ذلك الشيخ، أو حتَّى لو كان تحريمًا لأمر ما يَمر في نفسه ذلك لكي ينتفع به ويكون ذلك الجواب مصلحة له، وحينئذ قد ينقل عن المفتي ذلك الجواب ويقول: إنني لا أنقل عن شخص عاديٍّ، بل أنقل لكمْ عن العالِمِ الفُلاني، وإنني أتعبَّد الله بجوابه، وما كان - والله - يقصد ذلك، ولم يسأل لأجل إبراء الذمة، فيكون الدليل قائده، والبرهان رائده، بل يهمه أثناء سؤاله الرخصة في الأمر، والتساهل والتمييع بحجَّة (الدين يُسر)! فيسأل عالمًا أو عالمين أو ثلاثة، والمهم أن يحصل على فتوى تجيز له وتبيح ما يتغيَّاه ويقصده من ملابسة أمرٍ، قد يكون هو أول من يعلم أنَّ فيه شبهةً، ولربما يكون مُحرَّمًا لأنه سيستخدمه فيما لا يجوز، فيلجأ إلى مثل أولئك الشيوخ والعلماء؛ فيفتونه بما يرجحونه، حتى يعثر على بغيته أو مراده، أو أن يركب فتوى عالم من العلماء على فتوى آخر، ويحضر لنفسه المقاس الذي يريده من فتح كوَّة الإباحة على معاملته التي يريد، وبعد ذلك يقارفها باسم الدين والتديُّن، وهو يعلم في حقيقة الأمر أنَّه ما أخذ ذلك الأمر لأجل الله، بل لأجل هوى نفسه ومبتغاها!
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "إنَّ الحقَّ إذا لُبس بالباطل يكون فاعلُه قد أظهَرَ الباطلَ في صورةِ الحقِّ، وتكلَّم بلفظٍ له مَعنَيَان: معنى صحيح، ومعنى بَاطِل، فيتوهَّم السامعُ أنه أرادَ المعنى الصّحيح، ومُرادُه في الحقيقةِ هو المعنى الباطِل)([8]).