تجاوز الميقات بدون إحرام
الميقات لغة: لفظ ميقاتٍ مصدر ميميّ([6])، على وزن مِفْعال، وأصله من الفعل (وقت)، والوَقْتُ مقدارٌ من الزمانِ، وكلُّ شيء قَدَّرْتَ له حيناً. وهو يطلق على الزّمان والمكان. فالميقات والموقوت بمعنى واحد، وهو الشّيء المحدود زمانًا أو مكانًا. فمن أمثلة استخدامه للزمان قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) ([7])، أي مفروضاً، والمِيقاتُ الوَقْتُ المضْروبُ للفعل والموضع يقال هذا مِيقاتُ أَهلِ الشأْم للموضع الذي يُحْرِمُون منه([8])، ومن استعماله للمكان ما يأتي من الأحاديث.
والميقات في الشرع:
لا يخرج عن ما استعملته العرب في لغتها؛ فهو: اسم للمكان الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم للذي ينوي الدخول في نسك الحج أوالعمرة([9]).
ومواقيت الحج تنقسم إلى قسمين:
· مواقيت الحج الزمانية؛ وهي أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة وقيل: جميعه على خلاف ليس هذا محل ذكره.
· ومواقيت الحج المكانية: وهي خمسة مواقيت منقسمة على جهات الحرم وهي: ذو الحليفة لأهل المدينة، وقرن لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، ويلملم لأهل اليمن، ويدل لهذه الأربع حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة"([10])، والميقات الخامس هو ميقات أهل العراق ومن جاء من جهة المشرق وهو ذات عرق، ودل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق"([11]).
وفي حكم تجاوز الميقات بدون إحرام؛ أي: بدون نية الدخول في النسك، وهو مريد الحج أو العمرة، أراء في المذاهب الأربعة على النحو التالي:
المذهب الحنفي:
عند الحنفية ليس لأحد ينتهي إلى الميقات إذا أراد دخول مكة أن يجاوزها إلا بالإحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة، ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات، ولبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط، واستدلوا لذلك بما يلي:
1. جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: إني جاوزت الميقات من غير إحرام، فقال: "ارجع إلى الميقات ولب وإلا فلا حج لك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجاوز الميقات أحد إلا محرمًا"([12]).
2. ولأن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة، وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء، فليس لأحد ممن يريد دخول مكة أن يجاوز الميقات إلا محرمًا.
ووجه قولهم أنه إن لبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط: أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرمًا، لا في إنشاء الإحرام منه، بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله([13])، وبعد ما عاد إليه محرما فقد جاوزه محرمًا، فلا يلزمه الدم ولأن الفائت بالمجاوزة هو التلبية([14])، فلا يقع تدارك الفائت إلا بالتلبية، بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله، ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الإحرام؛ لأنه إذا أحرم من دويرة أهله صار ذلك ميقاتًا له، وقد لبى منه فلا يلزمه تلبية، وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية منه، وهو الميقات المعهود([15]).
المذهب المالكي:
وعند المالكية لا يجوز لأحد يريد دخول مكة أن يدخلها إلا محرمًا إلا لمن كان يكثر الترداد إليها كالحطَّابين، ومن يحمل الفاكهة، أو من يخرج عنها من أهلها لحاجة ثم يعود، ومن سوى هؤلاء فلا يدخلها إلا محرمًا إذا مر على بعض هذه المواقيت، ولا يجوز أن يتجاوزه فيحرم بعده لا إلى ميقات سواه ولا إلى غير ميقات، إلا أن يتعداه إلى ميقات له كشامي يمر بذي الحليفة فأخر الإحرام إلى الجحفة، فإن جاوز الميقات فله حالتان:
الأولى: أن يكون قاصدًا الحج أو العمرة.
والثانية: أن لا يقصد أحدهما.
أما الحالة الأولى وهى أن يقصد حجًا أو عمرة:
o فإن جاوز الميقات غير محرم فقد أساء ثم إن عاد فلا دم عليه، ويرجع أن أمكنه ما لم يحرم. وأما إن أحرم ثم عاد فالدم لا يسقط، ثم إن الدم إنما يسقط عنه إذا كان جاهلاً.
o وأما إن جاوزه عالمًا بقبح ما فعله فعليه الدم ولا يسقطه رجوعه.
وأما الحالة الثانية: وهى إذا لم يقصد أحد النسكين؛ كالنجار، فاختُلف في المذهب هل يجب عليهم الإحرام من الميقات، أو يستحب على قولين([16]).
المذهب الشافعي:
إذا جاوز موضعًا وجب الإحرام منه غير محرم أثم وعليه العود والإحرام منه إن لم يكن له عذر، فإن كان له عذر؛ كخوف الطريق، أو الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، أحرم ومضى وعليه دم إذا لم يعد؛ فإن عاد قبل الإحرام فإنه يُحرم منه والمذهب عند الشافعية أنه لا دم عليه سواء كان دخل مكة أم لا([17]).
قال الشافعي في الأم: "فقال قائل: لم جعلت على من جاوز الميقات محرمًا([18])؟ قلت له: ارجع حتى تكون مهلاً في الموضع الذي أُمرت أن تكون مهلا به على الابتداء. ... فإن قال قائل: فلم قلت إن لم يرجع إليه لخوف فوت، ولا غير عذر بذلك، ولا غيره، اهراق دمًا عليه؟ قلت له: لما جاوز ما وقَّت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك أن يأتي بكمال ما عليه أمرناه أن يأتي بالبدل مما ترك"([19]). ويفهم من كلام الإمام الشافعي –رحمه الله- وجوب الدم على من جاوز الميقات سواء كان لعذر أو غير عذر.
المذهب الحنبلي:
وقد جاء عند الحنابلة قولهم: ولا يحل لحرٍ مسلمٍ مُكلفٍ أراد مكة، أو النسك، تجاوز الميقات بلا إحرام، إلا لقتال مباح، أو خوف، أو حاجة تتكرر؛ كحطَّاب ونحوه، فإن تجاوزه لغير ذلك لزمه أن يرجع ليحرم منه، وإن أحرم من موضعه فعليه دم([20]). قال في الإنصاف: "هذا المذهب سواء أراد نسكًا، أو مكة، وكذا لو أراد الحرم فقط"([21]).
قال ابن قدامة في المغني: "من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب:
1. من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم.
2. من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو أعتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم.
3. المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم (فإن تجاوزه) رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعليه دم"([22]).
الخلاصة والترجيح:
مما سبق يتضح لنا أن المذاهب الأربعة كلها لا تُجيز تجاوز الميقات إلا بإحرام، فالحنفية: يُوجبون الدم على من تجاوز الميقات، سواء كان قصده الحج، أو القتال، أو التجارة، لا يفرقون؛ سواء كان لعذر أو لغير عذر.
فإن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب لا يسقط، وإن مضى في حجه ولم يرجع فعليه دم.
والمالكية، والشافعية، والحنابلة، يستثنون من كان عنده عذر؛ كالجاهل، وكخوف الطريق، أو الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، ومن يكثر ترداده؛ فهذا لا يوجبون عليه شيء. ومن تجاوز الميقات عند هؤلاء له حالتان:
1. إما أن يرجع فهذا لا شيء عليه.
2. وإما أن لا يرجع فعليه دم، ويمضي في حجه.