الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وكلمةٍ جامعة، وهي من أعظم قواعد الشرائع السماوية كلها، والتي لا يشذ عنها شيء، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}[النحل: 90].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة من أعظم القواعد الشرعية، والتي يدخل تحتها من الفروع ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتتفق عليها جميع الشرائع السماوية؛ ذلك أن الشرائع كلها من لدن حكيم عليم، قال سبحانه وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115] قال أهل العلم: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
ومَرَدُّ معرفة العدل من الجور إلى أدلة الشريعة المطهرة، ونصوصها المفصلة.
يقول الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: "العدل حصن يلجأ إليه كل خائف، وذلك أنك ترى الظالم وغير الظالم إذا رأى من يريد ظلمه، دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه، ولا ترى أحداً يذم العدل، فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين"(1).
وقال العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: "والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.
وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة"(2).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: "إن جماع الحسنات: العدل، وجماع السيئات: الظلم"(3).
وقال الماورديّ: "إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل"(4).
أيها القارئ الكريم:
إن هذا المعنى الشرعي العظيم ـ وهو العدل ـ الذين نتفيأ ظلال الحديث عنه من وحي هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} لهو معنى تعشقه النفوس الكريمة، والفطر السوية، ولله! كم كان تحقيقه سبباً في خيرات عظيمة، ومنح كثيرة؟! والعكس صحيح، وكم كان تحقيق هذا العدل سبباً في إسلام أناس ما حثهم على الإسلام إلا تحقيق هذا الأصل الكبير: العدل، وإليكم هذا الموقف الذي يبين شيئاً من آثار العدل في نفوس الخصوم قبل الأصدقاء:
روى ابن عساكر في تاريخ دمشق(5) من طريق الشعبي قال:
وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح يخاصمه ـ وشريح هذا أحد أشهر القضاة في عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ـ قال: فجاء علي حتى جلس إلى جنب شريح، فقال له علي: يا شريح! لو كان خصمي مسلماً ما جلست إلا معه، ولكنه نصراني! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم وإياهم في طريق فاضطروهم إلى مضايقه، وصغروا بهم كما صغر الله تعالى بهم، من غير أن تطغوا، ثم قال علي: هذا الدرع درعي،لم أبع ولم أهب! فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين! هل من بيّنة؟ قال: فضحك علي وقال: أصاب شريح! ما لي بينة، فقضى بها للنصراني!
قال: فمشى خُطىً ثم رجع، فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء! أميرُ المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك، يا أمير المؤمنين، أتبعتُ الجيش ـ وأنت منطلق إلى صفين ـ فخرجتْ من بعيرك الأوْرق، فقال: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس، فقال الشعبي: فأخبرني من رآه يقاتل الخوارج مع علي يوم النهروان.
فتأمل يا عبدالله! كيف أثّر هذا الموقف العجيب من الرجل الأول في الدولة آنذاك في إسلامه، بل والانضمام إلى جيوشه التي تقاتل الخوارج المارقين، وليست هذه فضيلة إقامة العدل في مثل هذه المواقف، بل إن الإمام العادل أحدُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه.
وفي الموقف مَلْحظٌ آخر: ألا وهو أن هذا القاضي لم يكن ليجرؤ على مثل هذا الحكم لولا أنه وجد ما يسنده ويقوي جانبه في إصدار مثل هذا الحكم على خليفة المسلمين آنذاك، من الخليفة نفسه، ومتى شعر القاضي أنه لا يستطيع أن يحكم بالعدل الذي يراه، فعلى القضاء السلام.
وهذا الموقف ـ أيضاً ـ يبرز جانباً من جوانب عظمة هذا الدين في العدل مع الخصوم والأعداء، فلم يمنع شريحاً كون الخصم نصرانياً أن يقضي له، وهذا تطبيق عملي لقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8].
أيها الإخوة الكرام:
وتمتد ظلال هذه القاعدة العظيمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} لتشمل جميع شؤون الحياة، فمن ذلك:
ـ العدل مع الزوجات: وهذا من الأمور المحكمات في باب العلاقة الزوجية، وهو أظهر من أن يفصل فيه، إلا أن الذي أرى أنه من المهم التوكيد عليه: هو تذكير الإخوة المعددين، بأن يتقوا الله في العدل بين زوجاتهم، وأن يحذروا من آثار عدمه السيئة في الحياة قبل الممات: وذلك فيما يقع بين الأولاد غير الأشقاء من نزاعات وخلافات، حتى يكونوا شماتة للآخرين، وأما في الآخرة فهو أعظم وأشد، وعليهم أن يتأملوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته التسع، ففيها الغناء والعبرة.
ومن صور تطبيقات هذه القاعدة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}:
ـ العدل مع الأولاد: ذلك أن على الوالدين أن يعدلوا بينهم، وأن يتجنبوا تفضيل بعضهم على بعض، سواء في الأمور المعنوية كالحب والحنان والعطف ونحو ذلك، أو في الأمور المادية كالهدايا والهبات، ونحوها.
ـ العدل والإنصاف في إصدار الأقوال، وتقييم الآخرين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، وقال عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}[الأنعام: 152].
وهذا باب واسع جداً، يدخل فيه الكلام على الأفراد، والجماعات، والفرق، والكتب، والمقالات، وغير ذلك.
وما أجمل ما قاله ابن القيم في نونيته:
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زِيْنَتْ بها الأعطاف والكتفان
أيها الإخوة:
ومن صور العدل التي دلّت عليها هذه القاعدة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}:
ـ العدل في العبادة: بحيث لا يتجاوز بها صاحبها العدل، ويتعدى الحد، ولا يقصّر في أدائها على الوجه الشرعي.
ـ العدل في النفقات: قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وقال سبحانه وتعالى مثنياً على عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: 67]، وكان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة: "وأسألك القصد في الفقر والغنى"(6).
وبالجملة ـ أيها الكرام ـ: فمن تأمل أوامر الله تعالى وجدها وسطاً بين خلقين ذميمين: تفريط وإفراط، وهذا هو معنى هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}.
وإلى هنا ينتهي ما أردت ذكره من إشارات عابرة حول معاني هذه القاعدة القرآنية الكريمة.
وإلى لقاء قادم في حلقة جديدة بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.