لقد وقف علماء العصور أمام معضلة (تعدد الزوجات) حيارى، فإن لم يجدوا لها حلاًّ طُعِنَ بالإسلام والمسلمين، ونُسب لهذا الدين الحنيف الظلم كل الظلم وهضْم المرأة كل الهضم.
نعم لقد كثرت التساؤلات والاستفسارات حول تعدد الزوجات في الإسلام وازدادت الشائعات وتواترت الأقوال بأن المرأة قد هُضمت حقوقها وغَبَنها الإسلام، وما تلك التساؤلات وتلك الظنون التي تدور على ألسنة بعضهم إلا لعدم فهم تأويل الآيات الكريمة الواردة في أوائل سورة النساء.
والحقيقة إنه لا يصح قراءة آية قرآنية دون ربطها بما قبلها وما بعدها لأن آيات القرآن الكريم محكمة مترابطة فيما بينها {آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(1).
ومن هنا فهم البعض نصف الآية (3) من سورة النساء: {..فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ..} هكذا منقوصة دون إعطائها حقّها من التدبُّر والتفكير ودون ربط بداية الآية بنهايتها، لذا فسَّروها بتفسيرات شهوانية نفسانية لا تتوافق والمراد الإلهي السامي الذي وضعها به تعالى، فلم يدركوا حقيقة معانيها الإنسانية السامية وهضموا حقوق المرأة وأساؤوا لها بالغ الإساءة، بل وشوَّهوا سمعة الإسلام السامية أيَّما تشويه.
إن هذه الآية القرآنية نزلت لأغراض إنسانية سامية وقد وردت في حق النساء اللاتي تُوفِّي أزواجهن أو استشهدوا وعندهن أطفال بحاجة إلى رعاية وتربية إيمانية تسمو بهم إلى مكارم الأخلاق.. إذاً الآية جاءت لأمرين:
1ـ المرأة الأرملة.
2ـ والأيتام.
والله سبحانه وتعالى يخاطب فينا إنسانيتنا لنستفيد من هذا العمر الثمين ونغتنم الفرصة ونعمل الصالحات.
والبحث الآن: أنه لا يجوز لأحد أن يقسم الآية نصفين وعلى حسب المزاج فيأخذ بنصف الآية الأخير ويحذف النصف الأول علماً بأن الآية أبداً لا تقبل التقسيم لأنها مشروطة بإن الشرطية ولا تقبل التجزيء. فالآية القرآنية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ...} أي: في حالات الحروب ونقص الرجال بالاستشهاد وقد خلَّفوا وراءهم أرامل ويتامى.. في هذه الحالة فقط، أو بحالات إنسانية لا نفسانية أنانية، يحق للرجل المتزوج الاقتران بأكثر من زوجة بغية تربية أبنائها التربية الصالحة، فيربي ذلك الرجل الصالح هؤلاء الأيتام مع أولاده كما لو كان أبوهم موجوداً وكأنه أب لهم، ويأخذ أموالهم ويديرها لهم بتشغيلها لصالحهم حتى تتأمّن منها نفقاتهم وأمور معيشتهم وإذا ما كبروا يجدونها بين أيديهم محفوظة، كما ينقذهم من براثن الانحطاط الأخلاقي والفساد الاجتماعي لعجز الأم (الأنثى) عن قيامها بهذا الدور من حيث تقويمهم وتسليكهم سبل الرشاد والسيطرة على سلوكية أبنائها البالغين وكبح جماح انحرافهم وشذوذهم، إذ ليس الذكر كالأنثى ولكلٍّ مقام على حسب الخلْق والتكوين الطبيعي، فسيطرة الرجل (الجنس الخشن) البنيوية والطبيعية "من ناحية نفسية وفيزيولوجية" تختلف تماماً عن سيطرة الجنس اللطيف من الإناث.. وهذا أمر مقطوع فيه بالواقع العملي والعلمي. فللأمهات سكب الحنان والحب والدلال للإبن، وللأب العطف وكبح جماح الشذوذ والانحراف فينشأ الإبن النشأة الصالحة القويمة بين الرغبة والرهبة، فلا يميع ولا يتعقد.
وإن هذه الرعاية للأيتام وهذا الحفظ لأموالهم يستلزم أن يدخل الرجل الذي يرعاهم عليهم بيتهم دائماً، وفي ذلك ما فيه من الشبهة بحق الأرملة والرجل الذي أراد الإحسان لها ولأيتامها إن لم يتزوجها، لذلك أمر الله عزَّ وجل بالزواج منها وتلك هي إنسانية هذا التشريع الإلهي الحكيم.
وعندما يستشهد الأب الصالح في سبيل الله دفاعاً عن الوطن والأهل والولد، هل يصح ترك الأبناء دون أب يصلح ويقوِّم اعوجاجهم ويحول دون شذوذهم وضياعهم؟. هل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان، هذا الشهيد الذي ضحَّى بحياته "والجود بالنفس أسمى غاية الجود"، هل جزاؤه أن تبقى زوجته أرملة عرضة للانحلال الأخلاقي والفساد الاجتماعي، فإذا كان الإسلام قد أمر بالإنفاق على الأرملة، فهل يكفيها الإنفاق وحده بعد رحيل الزوج!. أليست بحاجة إلى رجل هي أيضاً يحنو عليها ويؤنس وحدتها، ويُشبع غرائزها الفطرية من طريقٍ حلال وبما يحمد عقباه!؟.
وهل يبقى الأولاد دون مشرف قوي على تربيتهم التربية القويمة لا سيما عند سن المراهقة عندما لا تقوى المرأة على ضبط سلوكيتهم؟. هل نتركهم عرضة للإجرام والشذوذ فيصبح أبناء الشهيد "دون ضابط حازم قوي" مجرمين أشقياء؟.
هَبْ أن قرية عدد رجالها ألف رجل استشهد نصفهم دفاعاً عن الوطن والدين والشرف والأهل والمال والولد وبقي نصفهم وعددهم /500/ معظمهم متزوجون متأهلون، فمن لليتامى والأرامل في مثل هذه الحالة؟. وأموالهم التي ورثوها عن أبيهم من يديرها لهم ويصرف عليهم من نتاجها؟. وهل تستطيع تلك المرأة أن تربي أطفالها فيكونون رجالاً على مستوى الاستقامة والرجولة كما لو كانوا في كنف رجل يأخذ بأيديهم ويرعاهم الرعاية الحقة.
والرسول صلى الله عليه وسلميقول: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(1).
فمن دواعي الإنسانية المثلى وجود رجل فاضل وكامل يحل محل أبيهم.
وكما يشترط القرآن الكريم يحق للمتزوج القادر من الناحية المالية والجسمية والعقلية أن يتزوج أرملة أو اثنتين أو بأقصى الحدود والإمكانات البشرية ثلاثة أرامل لإيواء أبنائهن وحفظ شرفهن وإمدادهن بالعيش الكريم بشرط أن يكون حكيماً عالماً حائزاً على قسط من الكمال والحكمة ليعدل بين الزوجات وينشئ الأبناء تنشئةً إنسانيةً كاملة، إذ معنى آية (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم): أنه لن تطيب الحياة الزوجية إلا بتوافر ثلاثة شروط أساسية في الزوج:
السعة المالية والغنى الكافي للعيش الكريم لمجموع أفراد الأسرتين أو الثلاث أو بأقصى الحدود والإمكانات البشرية عموماً لأربع أُسر، وهذا الشرط وحده لا يكفي أبداً ما لم يتوفر الشرط الثاني وهو أن يكون لدى الزوج مؤهلات وإمكانات جسمية يستطيع بها أن يكفي أنوثة زوجاته الثلاث أو الأربع ولا يُنقص إحداهن حقّها الطبيعي في إرواء غريزتها الأنثوية وعدم هضم حق زوجة على حساب زوجة، وهذا الشرط الثاني يلزمه حتماً الشرط الثالث والمهم أن يكون الزوج حكيماً عالماً يستطيع أن يحقِّق العدالة والرضا في قلوب ونفوس زوجاته جميعهن، فيعدل بينهن دونما تمييز لواحدة على حساب الأخرى باللباس والطعام والسكن والكلام والقول الحسن والمعاملة الإنسانية اللطيفة لهنَّ جميعاً بالمساواة دونما محاباة أو تحيّز أو تفضيل.
فمن وجدت فيه المؤهلات الثلاث: الغنى، والقوة الجسمية، والحكمة، يستطيع الزواج بأرملة أو اثنتين أو ثلاث إضافة إلى زوجته.. عندها تطيب الحياة الزوجية ويتم التعاطف والتآزر والتكاتف بالأسرة وينشأ المجتمع المثالي السعيد الراقي.
إذاً الزواج بأكثر من زوجة لا يجوز أبداً إلا لأهداف إنسانية سامية مشحونة بالرحمة على الأطفال والحفظ لأموالهم والحنان والعطف على الأرامل لإنقاذهن من الدمار الاجتماعي، وتلك لعمر الحق أسمى الآيات، تلك آيات الله الرحيم، وعطفه على عباده إذ ليس الزواج أمراً مزاجياً أو تذوقياً هدَّاماً، بل إن تعدُّد الزوجات أمر بنّاء مزدان بالتآزر والتضامن والإحسان للشهيد الكريم ولزوجه وأبنائه عند من هو أعلى منه منزلة وحكمة ورحمة.
تعدد الزوجات هدف إنساني سامٍ وليس لغاية نفسانية أو شهوانية، ولو كان لغاية شهوانية أو نفسانية لكان للنساء الحق بالزواج بأكثر من أربعة رجال لأن عواطفهن الغريزية التي وضعها الخالق فيهن أغزر من عواطف الرجال (علماً بأن عاطفية النساء القوية خصّصها تعالى لينشأ الطفل محفوفاً بالحنان والحب والرحمة، وللأب عواطفه ولكنها بعيدة عن المساواة بعواطف الأم الغزيرة، وكما قدمنا لينشأ الإبن التنشئة الصحيحة الكاملة بين رغبة ورهبة).
إذاً لا يجوز تعدد الزوجات إلا لأهداف سامية إنسانية وبغية إنقاذ الأرامل واليتامى لا لإشباع الميول المنحطة والتمسُّح بالدين والقرآن وهضم حقوق المرأة والإساءة لها.. وذلك ما بيَّنه تعالى في آية سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}: إذا خفت ألاَّ تسوس الأيتام وتؤدي لهم حقوقهم والعناية بهم. {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}: تزوج أمهاتهم، إذاً الآية جاءت بحق الأيتام والأرامل، ففي حال الحروب عند وفاة الأزواج لك الحق بالتزوج. هذا وعلماً بأن الخالق عزَّ وجل جعل عدد الإناث من النساء متساوياً مع عدد الذكور من الرجال، فلكل ذكرٍ أنثاه، وهذه حقيقة علمية لا يتطرّق إليها الشك، وتميل كفة النساء إلى الرجحان في حالات الحروب حين تأكل في أتونها المقاتلين من الرجال والأزواج، عندها وللأهداف الإنسانية الرحيمة التي أشرنا إليها ولكن لا لأهداف (شهوانية وأهواءٍ ترفية) تُدمِّر الأسرة وتُقوض سعادتها وتزرع الغيرة وتؤدي للانحياز للأجمل، فيذر الأخرى كالمعلَّقة فلا هي متزوجة ولا هي مطلَّقة، كما تزرع التمايز والعداوة والبغضاء بين الأخوة من أمٍ لإخوتهم من أمٍ أخرى وتذهب السعادة. فمن حاز الكفاءة في الشروط الثلاث: السعة المالية والقوة الجسمية والحكمة العقلية لما يُحقِّق العدالة والمحبة والتنشئة الصالحة لحياة سعيدة مزدهرة له الحق بالزواج من أكثر من واحدة وإلاَّ فلا. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..}: إذا وجدت نفسك لا تستطيع القيام بحق النساء فتزوج واحدة لا تتزوج أكثر.
أما هذا العدْل المذكور فيختلف عن ما نصت عليه الآية الكريمة في سورة النساء (129): {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}.. فالعدل في الآية (3) من سورة النساء {... فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً...} يتضمن تأمين حقوقهن من حيث المعيشة وإكفاء أنوثتهنَّ وحكمته العقلية في التقويم والتربية الصالحة للأولاد، فكلمة (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا) تتضمن الوجهين، فهناك من يستطيع وهناك من لا يستطيع.
أما الآية (129): {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}: فهنا حتمية بعدمِ الاستطاعة، ولذا فلها معنىً آخر: إذا واحدة أجمل من واحدة، النفس تميل وهذا ليس بيدك ولكن عليك أن تعامل الزوجات بالإحسان. {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}: مع واحدة دون واحدة. {فَتَذَرُوهَا}: تهجرها حتى تصبح. {كَالْمُعَلَّقَةِ}: لا متزوجة ولا مطلقة. المعاملة: الكل مثل بعض، ليلة وليلة، وكذا في المال، أما الحب فهذا لست بمؤاخذ عليه، المهم أن لا تظهره بالمعاملة أبداً.
«اللهم هذا قَسْمي فيما أملك.. فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك».. من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان قلبه يميل للمرشدة من نسائه الطاهرات والتي تنتفع النساء على يديها أكثر وتكون أقرب لربِّها ونفسها أتقى وأنقى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. فمن كانت إيمانها وتقواها أعلى وأسمى كانت مقرَّبة لنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر، ولكن المعاملة الظاهرية لهن متساوية فلا تحيُّز ولا محاباة.
وهذا غيض من فيض مما تعرَّض له عالمنا العربي الكبير محمد أمين شيخو لشرح الآيات الكريمة الواردة في سورة النساء.