[ الدماغ .. كيف يفكر ]
لقد عرف أغلب المفكرين والفلاسفة أن الوجود متحرك وفي صيرورة وهو لا معين . فزينون الإيلي أدرك أن الوجود متصل ولا متناه وهو عندما وضع حججه يرى أن التعامل معه فكرياً في حكم المستحيل . وهذا ما تمت مقاومته من أرسطو وباقي الفلاسفة . فالإبقاء على عدم التعيين لا يحقق مطلب العقل , بتحقيق تعامل مجد مع الواقع . فيجب الوصول إلى ثوابت أكيدة يتم اعتمادها , ولكن هذا غير ممكن , فلا شيء أكيد بصورة مطلقة , فالصيرورة وعدم التعيين و اللا تناهي هي من خصائص الوجود الأساسية .
هذه المشكلة هي دوماً ماثلة في كل تفكير يسعى لفهم الوجود ويجب التعامل معها لتحقيق ما يرضي العقل ويقبل به , وهذا ما يفعله كل مفكر , فهو يسعى لتعيين الثوابت الأساسية في هذا الوجود , لكي ينطلق منها ويبني عليها أفكاره . فالوجود لا يمكن التعامل معه إلا بعد فهمه ومعرفته , وهذا لا يتم إلا بعد تثبيته وتحديده وتعيينه .
إن عمل العقل الأساسي هو كشف البنيات في هذا الوجود , فأهم وظيفة للعقل البشري هي كشف البنيات المضمرة في الوجود , وذلك ببناء نماذج فكرية تمثلها . فكما يقول كانت" أن المعرفة وليدة فعل الذهن في الأشياء والعقل لا يدرك إلا ما ينتجه على صورته ومثاله" .
وقد قام العقل من أجل التعامل المجدي مع الواقع وفهمه , باعتماد ما يلي :
1 – التعريف , والتعرّف .
التعريف ( أو التسمية ) هو : تشكيل المفاهيم أو الهويات الثابتة المحددة , التي تمثل الأشياء أو الأشخاص أو أي شيء , فهي بنيات فكرية تمثل الأشياء وما لها من خصائص وصفات محددة .
أما التعرّف فهو : اعتماد هذه المفاهيم , وكلما صادفنا ما يمثل مفهوم معين نتعرف عليه ‘ على أنه هو هذا الشيء الذي يرمز له المفهوم .
2 – تحريك المفاهيم أو الهويات الممثلة للأشياء , بواسطة المفاهيم التحريكية التي يشكلها العقل , والتي تمثل تغيرات و صيرورة هذه الأشياء . فبذلك يستطيع تمثيل أحداث الوجود فكرياً , وبناء التنبؤات أو التوقعات لما سوف يحدث , أو لما حدث .
فالعقل يشكل نوعين من المفاهيم أو البنيات الفكرية
ا - مفاهيم تدل على الأشياء وتحدد هويتها وخصائصها
ب - مفاهيم تدل على حركة أو تغيرات أو صيرورة الأشياء أو الهويات أي مفاهيم تحريكية
فالعقل قام بتمثيل أشياء وعناصر الوجود وصيرورتها , بهويّات و مفاهيم ثابتة , محددة , معينة , يستطيع التعامل بها .
فهو بذلك يحول اختلافات وصيرورة الأشياء , إلى اختلافات محددة معينة بين وحدات أو هويات معرّفة لديه , عندما يشكل البنيات الفكرية الممثلة للوجود وحوادثه .
وتثبيت المفهوم هو منعه من التغير والحركة والصيرورة , وهذا هو أساس مبدأ الهوية الذي هو :
" – أ- تبقي هي– أ- "
وتحديد المفهوم ( أو البنية الفكرية ) هو فصله عن غيره من المفاهيم وتحديده .
وتعيين المفهوم هو تعيين صفاته وتأثيراته , فعدم تعيين خصائصه و تأثيراته هو عدم تعيينه .
مثال : فالإلكترون تعيّن صفاته و تأثيره بالنسبة للبروتون أو بالنسبة لمجال كهربائي أو مغناطيسي أو بالنسبة للجاذبية .
فلابد من تعيين صفات وتأثيرات الشيء إذا أردنا تعيينه . وصفات وتأثيرات أي شيء لا يمكن أن تعين بشكل مطلق , فصفات وتأثيرات أي شيء تابع للبنية أو البنيات التي يؤثر فيها .
فالعقل يقوم بالتحريك الفكري ( أي المعالجات الفكرية أو التفكير ) لهذه البنيات الفكرية التي شكلها , وذلك خطوة , خطوة . أي يقوم بالتحريك الفكري للهويات الشيئية أو الإسمية , بواسطة الهويات التحريكية .
فبذلك استطاع الدماغ أو العقل تشكيل نموذج مختصر وبسيط للوجود وصيرورته , بواسطة تلك البنيات الفكرية التي شكلها , تمكنه من تحريك أو مفاعلة النموذج الذي شكله للوجود , إلى الأمام إلى المستقبل وهذا هو التركيب , أو إلى الخلف إلى الماضي وهو التحليل . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية .
وعندما أوجد عقل الإنسان الأفكار أو البنيات الفكرية , التي استطاعت أن تمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها , تكون زمن فكري يمثّّل الحوادث و صيرورة الوقائع . فهو يستطيع أن يعرف أي يتنبأ بالأحداث , أو نتائج تفاعلات بين بنيات , حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها , فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث .
فالفكر يستطيع السير بتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع , أي إلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أو التحليل , ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث , وتزداد دقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي .
فالعقل ثبّت , وحدد , وعين الأشياء , بتشكيله المفاهيم أو الهويات الشيئية التي تمثل هذه الأشياء , أي شكل البنيات الفكرية الإسمية ( بالنسبة لنا نحن البشر بعد أن ملكنا اللغة) مثل:
الأسماء الخاصة إن كانت خاصة مثل: زيد . عمر . دمشق .
أو الأسماء العامة مثل: شجرة . قطة. سيارة .
أو أسماء عامة مركبة مثل: الأسرة. الدولة. الاقتصاد . العلم . الفكر .
وحددها بالكميات , المقدار والعدد . وبالزمان . قبل , بعد . وبالصفات والخصائص الكثيرة الأخرى .
وكذلك ثبت وحدد وعيّن العقل التغيرات و الصيرورات وحددها عندما شكل البنيات الفكرية التحريكية مثل :
كبر , صغر , صار , نما , أكل , ضرب , عمل , فرح . . . .
والبنيات الفكرية التحريكية العامة المعقدة , مثل : التعاون , الصداقة , الحرية , العدالة , الديمقراطية. . . .
وباستعمال قواعد النحو ,العطف والربط والجمع والاستثناء...
واستخدم الاشراط أو الربط المنطقي الذي يعتمد عليه مبدأ أو آلية السببية ( إذا كان " كذا " يكون " كذا " ) .
واستعمل التصنيف والتعميم والقياس والمقارنة والتقييم والحكم , والاختبار والتصحيح , لكي تتطابق أو تقترب النتائج بين النموذج والأصل .
وهذا ما أسميه التكميم الفكري . فالتكميم الفكري هو تمثيل الموجودات وصيرورتها ببنيات فكرية اسمية و تحريكية , ثابتة محددة معينة , أي مكممة .
وبذلك فُتح الزمن في هذا النموذج الذي صنعه للوجود . فالعقل عندها يستطيع السير فكرياً عبر الزمن إن كان إلى الماضي أو إلى المستقبل .
مثال على تكميم العقل للكثرة
هناك مثل يقول" لا يمكن حمل بطيختان بيد واحدة " هذا صحيح في الوضع العادي . ولكن يمكن حمل بطيختان أو أكثر بيد واحدة إذا ربطت معاً أو وضعت في وعاء لتصبح مجموعة واحدة .
وهذا ما يفعله العقل عند التعامل مع الكثرة , فهو لا يستطيع التعامل إلا بالوحدات المحددة , لذلك هو يستعمل آلية تشكيل المجموعة بجمع عدة وحدات متماثلة أو متشابه في بنية واحدة , فبذلك يستطيع التعامل معها وتحريكها و مفاعلتها مع باقي البنيات .
وطريقة تشكيل المجموعات هي نفسها التعميم الذي يتضمن ضم أو جمع عدد من البنيات الفكرية في مجموعة واحدة , لأنها تتضمن بعض الصفات أو الخصائص المتماثلة أو المتشابهة.
فالمجموعة أو الفئة هي طريقة تكميم استعملها عقلنا في تعامله مع الكثرة , وأعادها للوحدة الواحدة , ليستطيع التعامل معها . فهو لا يستطيع التعامل مع الكثرة , إذا كانت غير معينة برقم أو كمية . فالتعيين برقم أو بكمية أو بخاصية يزيل عدم التعيين .
إذاً استعمل عقلنا الفئات أو المجموعات أو الأسماء العامة وكذلك الأعداد والصفات , لكي يتعامل مع الكثرة . فقد كمم العقل المقدار بالعدد , وكمم المكان بالمسافات والاتجاهات والسطوح و الحجوم , وكمم الزمان بالوحدات الزمنية والاتجاه قبل وبعد أي الماضي , والحاضر , والمستقبل . وكمم قوة المؤثر بمقدار شدتها أو درجتها . وكمم الأحاسيس بتحديد نوعها , أو تصنيفها . والكم ليس بحاجة إلى تصنيف , فتعيين الكم هو تصنيف له .
والعقل عندما يشكل البنيات الفكرية يكون ذلك بناءً على تكميم الكيف . إن الكيف بالنسبة لنا مرتبط بأحاسيسنا بشكل أساسي , فهو تابع لأنواع أحاسيسنا وخصائصها , وهو مرتبط بالممتع والمفيد والجميل وبكافة أنواع الأحاسيس . وتشكيل العقل للكم فقد أتى لاحقاً نتيجة معالجة واردات الحواس بشكل متطور .
أنواع ودرجات التكميم الفكري
للتكميم الفكري درجات أو مستويات , أي يمكن أن يكون ضعيفاً وغير دقيق , ويمكن أن يكون دقيقاً , ويمكن أن يكون تاماً أو مطلقاً , مثال على ذلك :
ضعف تكميم درجة الاحتمال , فكما كان مفهوم العدد محدود وضعيف التكميم لدي الإنسان البدائي , الذي يعرف فقط واحد , إثنان , ثلاثة , كثير . كذلك أغلبنا يقول عن الاحتمال ممكن أو محتمل , ممكن جداً , نادر , حتمي , مستحيل , وهذا تكميم ضعيف لدرجة الاحتمال , فيجب تعيين درجة الاحتمال بعدد محدد وإن لم يمكن فبنسبة محددة بعدد . فأغلبنا لا يدرك نسبة الاحتمال بشكل جيد , فاحتمال نسبته واحد بالعشرة يختلف كثيراً عن احتمال واحد بالألف ويختلف بشكل كبير عن احتمال واحد بالمليون , ومع ذلك لا يدرك أغلبنا مقدار هذا الفرق . فشاري ورقة اليانصيب والتي احتمال ربحها واحد بالمئة ألف أو واحد بالمليون , يقول إن الربح ممكن , وقد ربح فلان وفلان , ويمكن أن أربح أنا , ولا ينتبه إلى نسبة الاحتمال الشبه معدومة . إن التعيين الدقيق لنسبة الاحتمالات هام جداً , وهذا لا يعرفه أغلبنا .
البنيات الفكرية الرياضية , لقد شكل عقلنا البنيات الفكرية الرياضية , والتي هي بنيات فكرية تامة أو مطلقة التكميم . فالبنيات الفكرية الرياضية الشيئية ( الهويات الرياضية الاسمية ) مكممة بشكل مطلق .
فالأعداد وهي التي نستطيع بواسطتها التعامل فكرياً مع الكثرة هي كميات مثبتة ومحددة ومعينة بشكل كامل , فالعدد ( 2 ) يعني شيئين أو وحدتين أو زمنين أو حادثتين... متماثلتين ومتطابقتين بشكل تام , ( مع أن هذا غير موجود في الواقع , فهناك دوما فروق بين أي شيئين أو أي وحدتين , يتم إهماله ) . وهذا مكن من القياس والمقارنة بشكل تام . وكذلك كممت البنيات الرياضية الهندسية النقطة والمستقيم والزاوية والمثلث... بشكل تام , وكذلك باقي البنيات الرياضية .
و كممت الرياضيات أيضاً التغيرات والصيرورة بالبنيات الرياضية التحريكية , مثل عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة , والجزر والتربيع , والمساواة وعدم المساواة , والمعادلة , والتفاضل والتكامل والتناهي ......الخ . وكافة البنيات والعمليات الرياضية مكممة بشكل تام , والبنيات الرياضية تتوسع وتنمو وتتطور باستمرار فقد نشأت فروع ومجالات كثيرة .
وإذا قارنا المنطق بالرياضيات . نجد أن المنطق يكمم الأفكار بشكل تام مثل الرياضيات , ولكنه لم يكمم إلا عدد قليل جداً من البنيات الفكرية الشيئية أو التحريكية . لذلك " الرياضيات . الرياضيات . الرياضيات , المنطق منذ زمن لم يعد كافياً " .
فالبنيات الرياضية هي بنيات فكرية تامة أو مطلقة التكميم , أي هي مثبتة ومحددة ومعينة بصورة تامة , وتعتمد البنيات الرياضية المسلمات كأحجار أساسية تبنى منها باقي البنيات الرياضية , فالمسلمات هي بنيات فكرية معتمدة ومتفق عليها من قبل كافة الرياضيين , وهذا لا يمنع من اعتماد مسلمات مختلفة وبناء رياضيات مختلفة بالانطلاق من هذه المسلمات . وهذه المسلمات هي تابعة للعناصر والخصائص الفيزيائية والبيولوجية والعصبية لتفكيرنا . أما كيف بنينا هذه المسلمة – أو المعلومة- ومدى دقتها . فهذا تم بعد الاختبار الواقعي وعدم ظهور ما يناقضها واقعياً حتى الآن , وإذا ظهر ما يناقضها يمكن تعديلها لتناسب ما يحصل فعلياً .
كيف نشأت أو كيف تشكلت الأفكار أو البنيات الفكرية في الدماغ
إن البنيات الفكرية تتشكل في أدمغة الكائنات الحية في أول الأمر , من واردات الحواس . فهي تتكوٌن نتيجة ترابط كمية معينة من واردات الحواس مع بعضها نتيجة تزامن حدوثها معاً بالإضافة إلى تكرار هذا الحدوث , ونتيجة آليات وعوامل أخرى , فتتشكل بذلك البنيات الفكرية الأولية أو الأساسية . وهذا يتم بعدما أن تتوضع في الذاكرة وتكون على شكل بنيوي أي حدوث نمو لمشابك ومحاور الخلايا العصبية , التي تكرر مرور التيارات العصبية فيها . وعندها يصبح بالإمكان إعادة إنشائها نتيجة وصول جزء منها , وليس كلها.
فالبنيات الفكرية تتشكل نتيجة تثبيت وتحديد مجموعة معينة من واردات الحواس التي دخلت معاً إلى الدماغ . والتثبيت ينتج عن تنامي محاور ومشابك الخلايا العصبية . و واردات الحواس تكون ذات كمية وشدة وخصائص ثابتة محددة أثناء إرسالها إلى الدماغ , فهي بمثابة صورة ثابتة محددة التقطت للواقع أثناء صيرورته .
هذا النوع من البنيات الفكرية الخام موجود لدى غالبية الكائنات الحية , فأصول الدماغ واحدة , فالفرق بيننا وبينهم هو في زيادة التخصص والتعقيد , ونشوء اللغة المحكية ثم المكتوبة هو الذي أحدث تلك الفروق الكبيرة بيننا وبينهم .
و عندما يولد الأطفال يبدؤون في أول الأمر بتشكيل بنياتهم الفكرية الخام , وبعد فترة يبدؤون بتشكيل بنياتهم الفكرية اللغوية .
وكل شيء ليس له واردات حسية يصعب على العقل تشكيل بنية فكرية له , والأفكار التي تنتج عن معالجة البنيات الفكرية هي فقط التي توجد بنيات فكرية ليس لها أصل واقعي .
التواصل الفكري
ولدى الإنسان الذي يعيش في مجتمع , تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية نتيجة التواصل بين الأفراد , فترابطت سلسلة بنيات فكرية لتشكل بنيات فكرية متطورة , عندما مثلت بعض البنيات الفكرية بإشارات فيزيائية ( أصوات وتعبيرات وحركات . . ) تدل عليها , وهذا أدى لنشوء البنيات اللغوية الفكرية وتطورها لتصبح كما هي عليه لدينا الآن.
فهذه البنيات اللغوية الفيزيائية المرسلة للدماغ الآخر تصبح هي أيضاً مدخلات حسية , وهي تتحول من جديد لبنيات فكرية خام , وتصبح بنيات فكرية دلالية . فهي ترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لآخر .
وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بها البنيات الفكرية الانتقال من عقل إلى آخر وذلك عن طريق ترميزها ببنيات لغوية فيزيائية أصوات وإشارات تنتقل إلى المستقبلات الحسية للعقل الآخر ويقوم هذا العقل بفك رموزها وإعادتها إلى بنبات فكرية . أي نشأت وسيلة للتواصل بين الناس . فهذا تم بعد أن تحولت البنيات الفكرية اللغوية إلى بنيات فيزيائية لغوية ( مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات) . فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تتحول إلى بنيات فكرية لغوية ثم إلى بنيات فكرية ومعاني , إذا تم فك رموزها . فبهذا تنتقل البنيات الفكرية من دماغ إنسان إلى أخر وتصبح مهيأة لكي تتوضع فيه , أي يمكن أن تتحول هذه البنيات الفيزيائية اللغوية إلى بنيات فكرية عصبية , و تتوضع في دماغ المتلقي .
فاللغة لدينا هي تمثل البنيات الفكرية والحسية الكثيرة المتنوعة , ببنيات فكرية لغوية فيزيائية محددة معينة وموحدة يتم التواصل بها بين الأفراد . ولقد استعملها دماغنا أيضاً في معالجته البنيات الفكرية , فكل جملة هي بيان لعلاقات أي هي تصف أو تمثل صيرورة جزء من الوجود .
إن هذا هو الذي أدى لحدوث قفزة هائلة لقدراتنا على معالجة الأفكار , عن باقي الكائنات الحية , وبناء التنبؤات أو المعارف . فالفيل والحوت وبعض الدلافين يملكون خلايا دماغية أكثر منا , ولديهم قدرات معالجة فكرية خام أكبر من قدراتنا , ولكن ليست أنجع من طرق معالجتنا . فنظام التشغيل في دماغنا أفضل وأنجع نتيجة استعمال البنيات الفكرية اللغوية المتطورة جداً لدينا , وهذا ما حدٌ كثيراً من فاعلية معالجتهم للبنيات الفكرية التي يتعاملون بها , فذاكرتهم أفضل وأدق ( والذاكرة من أسس قدرات التفكير ) , ولكنهم يتعاملون مع بنيات فكرية خام , لأنها لم تمثل بدقة ببنيات فكرية لغوية . ويمكن تشبيه الفرق بيننا وبينهم , بأن طريقة تفكيرنا رقمية وهي عالية التكميم نتيجة اللغة المتطورة , و طريقة معالجاتهم التي يمكن اعتبارها غير رقمية .
لقد استطاع العقل التعامل مع صيرورة وعدم تعيين الوجود بتلك الطريقة , صحيح أنه لن يستطيع بلوغ المطلق, ولكنه سوف يصل إلى نسبة عالية جداً من دقة التنبؤ تكفي متطلباته وأوضاعه .
إن كشف بنيات الوجود المتنوعة و اللا متناهية – بتمثيلها ببنيات فكرية- هو ما قام به العقل البشري, فهو يقوم بكشفها وتحديدها وتعيين خصائصها وبدقة متزايدة . والبنيات الفكرية العلمية العالية الدقة التي يكشفها - أو يشكلها- العقل البشري بمساعدة التكنولوجيا والذكاء الصناعي - الكومبيوتر وما شابهه- تتزايد بسرعة هائلة سواء كان بكميتها أو بدرجة دقتها أو سعتها وشمولها .
ولا يمكن كشف كامل بنيات الوجود مهما فعلنا لأنها لا متناهية , وهي في صيرورة دائمة , وتتخلق باستمرار بنيات جديدة وتختفي بنيات , فبنية الوجود الكلية لا يمكن تحديدها وتعيين خصائصها بصورة تامة , أي أن عدم التعيين والصيرورة لهذا الوجود , موجودة مهما فعلنا.
لكن نحن لا يهمنا ولا نريد إلا ما نحن بحاجة إليه, صحيح أن ما يمكن أن نحتاجه يمكن أن يكون شبه لا متناه وغير محدد , ويظهر جديد باستمرار فكلما ظهرت حاجة أو دافع جديد نسعى إلى تحقيقه .
- يقول لجون كوتنغهام
" ما من ريب أن الفكرة التي تذهب إلى أننا نستطيع الوصول إلى نوع من الحقيقة المطلقة على خطأ: فنحن كائنات متناهية والواقع إذا لم يكن متناه , فهو أوسع بشكل غير محدود من أي شيء يمكن أن تفهمه عقولنا المتناهية, ولكن إذا لم نتمكن من إنشاء مرآة غير مصدوعة تعكس البنية الهائلة والمعقدة للواقع , فنحن قادرون على الأقل أن نميز جزءاً من بنيته, ولو من خلال زجاج هو بالضرورة مظلم ومشوه . وقد تكون الملاءمة الكاملة التي تصورتها " الأفكار الواضحة والمتميزة" عند ديكارت بالغة التفاؤلية . ولكن ذلك ليس سبباً للتنازل عن فكرة الواقع الموضوعي , أو التخلي عن الكفاح لجعل رؤيتنا أوضح وأشمل وأدق بالتدريج . "
إن قدرات العقل البشري هائلة , وعندما يتعامل مع الواقع اللا معين و اللا متناه تكون الخيارات المتاحة لتفسيره هي أيضاً لا متناهية, فهو يستطيع تشكيل أغلب ما يريد من البنيات الفكرية ويعطي المعاني التي يريد لهذه البنيات.
وأول من عرف ذلك هم السفسطائيون , وقد اقتربوا بذلك من فهم الوجود بشكل كبير لأنهم عرفوا أهم خصائص الوجود, وخصائص العقل , فاللعب بالأفكار المتاحة واسع جداً , وخاصةً بالنسبة للعقل الذي تعلم الكثير من الأفكار, فقد أدركوا الخيارات الهائلة المتاحة أثناء التفكير, وهذا جعل كل شيء متاح في التفكير, فكل فكرة مهما كانت يمكن الرد عليها إما بتفنيدها ونقدها أو بتأييدها ودعمها .