~*¤®§(*§ أزمة الفيزياء المعاصرة §*)§®¤*~ˆ
أزمة الفيزياء المعاصرة أو محاولة البحث عن النظرية النهائية للكون.
تختلف فلسفة الطبيعة عن الفلسفة التروستوندالية، كونها تطرح الطبيعة لا كمُنتَجة بل كمُنتِجة و هي "مستقلة"، و تسمّى بـسپينوزا الفيزياء(Spinozism of Physics)، و هذه النزعة غير خاضعة لمتطلّبات الشعور. إنّ كل تفسير مثالي للطبيعة "منقول" من حقله الخاص، لا يلبث أن يتحوّل إلى "لامعنى مغامر"، و أمثلته كثيرة...
إنّ القاعدة الأولى(First Maxim) لكلّ "حقيقة" علمية للطبيعة، تلك التي تعمل على شرح "كل شيء" بـقوى الطبيعة، و هي مطبّقة كثيرا في التفسيرات الطبيعية، لكنّها توقّفت أمام حاجز منيع، مثلا أمام الظواهر العضوية التي لها مظاهر خاضعة لمنطق العقل.
بالفعل، فكل فكر يعمل على الإنتاج و إعادة الإنتاج؛ فلاشيء مستحيل أن يعاد إنتاج نشاط الحرية عبر الفكر، لكن فقط عن طريق العقل العلمي(Scientific Reason).
إنّ علمنا هو بالكامل "واقعي"؛ إنّها الفيزياء،(1) لكن فقط الفيزياء النظرية، بنزعتها مثلها مثل أنظمة الفيزياء "الكلاسيكية" و الفيزياء الميكانيكية، التي عملت في الأزمنة المعاصرة على "بعث" الفلسفة الأبيقورية، فانطلقت الفيزياء من جديد بعد "سبات طويل"...
إنّنا لا نستطيع الوصول إلى تكوين فكرة حول الفيزياء المعاصرة بـ"انتهاج" طريق الميكانيكا الكوانتية و الفيزياء الذرية المؤسّسة على أفكار تجريبية خالصة. لأنّ الإشكال المعالج الأول هو ذلك المتعلّق بالسبب "المطلق" للحركة(of movement Absolute Cause)، و الذي بدونه لا تمثّل الطبيعة كلّ "متكامل" و "نهائي"، الأمر الذي لا تستطيع معالجته ميكانيكيا، بما أنّه من وجهة نظر ميكانيكية، الحركة محدثة من طرف الحركة، و ذلك إلى ما لا نهاية.
فلا يبقى إلاّ طريق واحد مفتوح لتكوين "حقيقي" لفيزياء نظرية: الطريق الديناميكي الذي يبيّن بأنّ الحركة ممكن أن "تولد" من السكون أيضا. و عليه، فالطبيعة هي في حركة حتّى عندما تكون ساكنة، و أنّ كل حركة ميكانيكية هي حركة ثانوية، صادرة عن حركة أولية - واحدة، ناتجة هي الأخرى عن الأسباب الأولى للبناء العام للطبيعة(و هي قوى بدائية و أساسية).
هذا المشروع النقدي، يحاول أن يختلف عن المشاريع النظيرة التي وجدت، إلى حد الآن، فإنّنا نشير في الوقت نفسه، إلى الفرق الذي يميّز الفيزياء الافتراضية (Hypothetical Physics) عن الفيزياء الإمبريقية(Empirical Physics)، الفرق المتمثل في الأسباب البدائية للحركات الناتجة في الطبيعة؛ أي الظواهر الديناميكية، لكن بالأحرى لا تتألّق إلى السبب الأصلي للحركات في الطبيعة و لا تشغل إلاّ حركات ثانوية. بل و أكثر من ذلك، لا تبحث عن الحركات البدائية أو الأولية إلاّ من وجهة نظر ميكانيكية(بما أنّها قادرة على بناء رياضي)، فبدت كذلك الفيزياء الافتراضية تهتم بـ"الاندفاعات" الداخلية للطبيعة، أو "اللاموضوعية"، بينما الفيزياء الأمبريقية، فلا تهتم إلاّ بما يحدث أمامها، من الجوانب الموضوعية؛ أي الخارجية.
إنّ دورنا اليوم، يتمثل في محاولة بناء علم للطبيعة، بالمعنى "الدقيق" للكلمة، و لكي نصل إلى إمكانية وجود فيزياء افتراضية، يجب البحث في شروط هذه الإمكانية، في نظرية للطبيعة كعلم. هنا مفهوم المعرفة أخذ معناه التقريبي، و من السهل حسب هذا المفهوم، إدراك أنّه بإمكاننا الوصول إلى معرفة الأشياء التي ندرك مبادئ إمكانيتها، لأنّه بدون ذلك، كل ما نعرفه عن موضوع ما، عن آلة معيّنة مثلا، و نجهل بناءها، و من ثمّ ندرك ما نراه فقط...
و هذا الأمر مرتبط باقتناع بسيط حول وجودها، غير أنّ مخترع هذه الآلة يملك معرفة "كاملة"(أي أوسع)، لأنّه يمثل "روح" هذا الإنجاز، و لأنّ الآلة قد "تواجدت" في دماغه كـ"فكرة متصوّرة" قبل أن تصبح "واقعا".
كما أنّ ولوج عمق البناء الداخلي للـ"فيزيس"(2)(الطبيعة) هو عملية "مستحيلة"، إلاّ إذا تدخلنا بـفعل حر، و بدون شك، فالطبيعة تستجيب بكل انفتاح و حرية، و ليس أبدا بطريقة مغلقة؛ فهي خاضعة لعدد كبير من الأسباب الواجب "مجاوزتها"، قصد الحصول على نتائج "خالصة".
لذلك، يجب افتراض طبيعة "تستجيب" في شروط معيّنة و قد تكون معدّلة من طرف شروط أخرى. هذا النوع من "التدخل" في الطبيعة يدعى بالتجربة(Experience)، و كل تجربة هي سؤال مطروح على الطبيعة، و التي من "واجبها الإجابة" عنها. لكن كل تساؤل يحمل ضمنيا حكما قبليا، لأنّ كل تجربة كتجربة، هي تنبؤ؛ فالتجريب هو إثارة ظواهر و بناء وقائع مستقبلية. إنّ الخطوة الأولى نحو العلم، يجب أن تعمل على "إنتاج" مواضيع هذا العلم بذاته.
نحن لا نعرف إلاّ "الإنتاجات التلقائية"، كذلك المعرفة، بالمعنى الافتراضي للكلمة، هل هي معرفة قبلية خالصة، فالبناء بواسطة التجربة لا يستطيع أن يضاهي الإنتاج التلقائي أو العفوي للظواهر.
و منه، فبدون شك، يمكن معرفة الكثير من الأشياء في علم الطبيعة مقارنة مع ما هو قبلي، فالظواهر الكهربائية، نحو المغناطيسيات و الضوئيات مثلا، هي خاضعة لـ"قوانين بسيطة"، يظهر نشاطها في جميع الظواهر و الآليات، الأمر الذي يجعلنا نستبق معرفة نتائج "كل" التجارب مسبقا، لأنّ معرفتنا ستكون نابعة مباشرة من "قانون" معروف بدون تدخل أيّ تجربة. لكن من أين تأتي المعرفة الصادرة عن هذا "القانون" ؟
ما نريد التفكير فيه هنا، هو أنّ "جميع" الظواهر ترتبط بـ"قانون واحد - وحيد"، و هو "مطلق" و لكنّه ضروري، لذلك، يمكن استنتاجها(الظواهر)، و بالتالي معرفتها قبليا. و في حالة ما إذا "لم تتمكّن" التجربة من تحقيق هذه المعرفة، و ذلك لكونها لا تستطيع أن تغامر في ما وراء قوى الطبيعة التي تستعملها كوسائل. و بما أنّ الأسباب الأولية للظواهر الطبيعية لا تظهر بطبيعتها، يجب التسليم بوجودها، لكن ما نضمره في الطبيعة ليس له إلاّ قيمة فرضية، و العلم مثلما هو مبنيّ يجب أن يكون افتراضي، شأنه شأن المبدأ الذي يقوم عليه.
لكن يمكن أن يكون الأمر عكس ذلك، و ذلك عندما تكون الفرضية أهم من الطبيعة نفسها، فـ"تذبذب" الطبيعة بين الإنتاجية و المنتوجية، يجب اعتبارها كمفعول صادر عن ازدواجية المبادئ التي بفضلها تبقى في نشاط دائم: الازدواجية العامة كمبدأ لجميع ظواهر الطبيعة و ضرورية للطبيعة ذاتها. هذا الافتراض "المطلق" يجب أن يكون معقولا في ذاته، كذلك يجب أن يخضع للتجربة الأمبريقية، لأنّه في حالة عدم خضوع ظواهر الطبيعة لاستنتاج هذا الافتراض، سيفقد هذا الأخير قيمته و يصبح "خاطئا"، حيث بفضل استنتاج جميع ظواهر الطبيعة عن طريق افتراض واحد و "مطلق"، فإنّ معرفتنا ستتحوّل إلى "تقليص قبلي" لهذه الطبيعة؛ أي تصبح 'علم لطبيعة قبلية'. إذا كان هذا الاستنتاج ممكنا، بشرط البرهنة عليه بالوقائع، فإنّ نظرية الطبيعة كعلم للطبيعة، ستصبح الفيزياء الافتراضية ممكنة كذلك...
لفهم 'طبيعة الطبيعة'، يجب فهم مسألة تفاعلها، نحو العبقري في الفن، الذي لا يصنع الأجزاء بإتقان خارجي بل بدافع داخلي: بـإلهام. و هنا يجب العودة إلى فيزياء نيوتن، لأنّه اكتشف بطريقة هائلة وجود قوة في الطبيعة تسمّى بالجاذبية الشاملة، رغم أنّه لم يذهب بعيدا في اكتشافه. فقد ساهم علم الفلك في الكهرباء، و الكهرطيسية، و ظواهر المد و الجزر التي تعتبر أساس حياة و موت كل الأنواع الطبيعية، النباتية و الحيوانية...
افترض نيوتن الكون على صورة ذرات و حركة و قوانين و حيّز و زمن: الذرات لبنات الكون الأساسية، ذات صفات خاصة، فهي بمثابة "جسيمات" صلبة و متحركة، و غير قابلة للاختراق، و هي ذات أشكال و أحجام مختلفة. أمّا خواص المادة التي تشكّلها هذه الذرات، فيعدد نيوتن منها التمدد و الصلابة و "اللاختراقية" و القصور الذاتي، و بواسطة الحركة و قوانينها "ينضبط" الوجود، فاعتبر أنّ الزمن و المكان "مطلقين"؛ الزمن واحد في كل الوجود، يتدفق على شكل "شلال مضطرد"، لتتالي وحدات الزمن.
"صاغت" فيزياء نيوتن العالم حتى القرن العشرين فيزيائيا، و قد تبنّى ديكارت هذا التصور في "قواعده" لـ"توجيه" العقل: من هنا يمكن الملاحظة بوضوح، لماذا الأرتميتيك و الهندسة تعتبر علوما أكثر دقة من غيرها: « لأنّها الوحيدة التي تتناول الموضوع بشكل صارم و بسيط، قائم على نتائج مستنبطة و عقلانية. إنّها أسهل علوم و أوضحها على الإطلاق، و موضوعها، كما نريده، لا يمكن أن يخطئ فيه الإنسان ».(3)
هذا التصور الرياضي، أحدث تغييرات(بل هي شروخا) جذرية في التصور الفيزيائي للوجود، فتمّ "نفي" كل ما يرفض مبادئ المنطق الرياضي أو يتعارض مع نتائجها، كالمقادير غير القابلة للتكميم مثلا. و لكنّها "أخفقت" في السيطرة على تفسير كل الظواهر الكونية، ممّا عجّل بظهور علوم جديدة كالفيزياء النووية التي أدّت إلى تطوير مقاربتي النسبية و الكوانتا.
و كثيرا ما يتحدث العلماء عن "الثورة"(Revolution) في الفيزياء المعاصرة، و التي نجمت عن اكتشاف ميكانيكا الكم، لكن الثورة مفهوم "دراماتيكي"، ذا جاذبية غريبة على ما يبدو، فهو يوحي، لأول وهلة، بأنّ شيئا ما قد انقلب رأسا على عقب. هنا يجب التنويه بأنّ قوانين الفيزياء "الكلاسيكية" - عند تطبيقها على الحالات التي صمّمت النظرية "الكلاسيكية" لوصفها - لم "تنقلب" رأسا على عقب، فحركة الپندول ما زالت توصف حتى يومنا هذا، بنفس الطريقة التي كانت توصف بها في القرن التاسع عشر للميلاد(19م)، أو حتى قبل ذلك بكثير.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المفاهيم "الكلاسيكية" كثيرا ما استخدمت بنوع من "النجاح" لتحصيل فهم جزئي لظواهر الفيزياء المجهرية: فهي مفاهيم ذات صلاحية تقريبية. و من المهم أن ندرك تلك الحدود التي يمكن فيها تطبيق الأفكار "الكلاسيكية"، التي توصف، في غالب الأحيان، بعدم الصلاحية العالمية...
عندما نفكر في التغيّرات التي قد حدثت في الفيزياء أثناء هذا القرن، يجب تذكر أنّه لم توجد أبدا نظرية "كلاسيكية" "شمولية" للمادة، فالقوانين "الكلاسيكية" هي قوانين مفيدة و ضرورية، رغم أنّها لا تخبرنا بكلّ شيء عن الأجسام الكونية، و بواسطة هذه القوانين يمكننا وصف سلوك(أي حركة) آلية مكوّنة من مجموعة روافع و حدافات...، و هذا إذا أعطينا بعض "الثوابت المادية" نحو الكثافة، معامل اللزوجة، إلخ...، للمواد الداخلة في تركيب الآلية.
و لكن، إذا طرحنا بعض التساؤلات:
لماذا تكون الكثافات كما هي عليه ؟ لماذا تأخذ "ثوابت" المرونة قيما بعينها ؟ لماذا ينكسر القضيب إذا زاد الشدّ فيه عن حد معيّن ؟ و هكذا...، فإنّ مقاربات الفيزياء "الكلاسيكية" تبقى في حالات صمت عن الرد. لأنّها(الفيزياء الكلاسيكية) لا تدلّنا على سبب انصهار النحاس مثلا عند درجة(C°1083)، أو سبب انبعاث الضوء الأصفر من بخار الصوديوم، أو سبب امتلاك الهيدروجين لخواصه الكيميائية، أو مرد إضاءة الشمس، أو ظاهرة انحلال ذرة اليورانيوم "تلقائيا"، أو سبب توصيل الفضة للتيار الكهربائي و سبب امتلاك الكبريت لخاصية العزل، أو سبب تصنيع المغناطيسيات من الصلب(...). و نستطيع الاستطراد أكثر من ذلك، مسجّلين كل "الحقائق" اليومية المحسوسة التي لا تملك الفيزياء "الكلاسيكية" الإجابة الموضوعية عليها، إلاّ فيما ندر.
هل معنى ذلك، أنّ الفيزياء المعاصرة تمتلك اليوم - كما اعتقد واينبرڤ(Weinberg) - ، نظرية فيزيائية نهائية - شاملة" ؟
فحسب مقاربات واينبرڤ، إنّ فكرة القوانين الأساسية تصبح، أكثر فأكثر، بسيطة، و ذلك كلّما اقتربنا من المتناهي في الصغر؛ إذا حدث و أن و جدت "قوانين نهائية"، يجب أن تكون بسيطة للغاية، و سنبقى بصدد البحث عن تطابقاتها التجريبية.(4)
لكن، هل تفسيراتنا العلمية "يقينية" ؟ هل سنصل - بفضل نتائج الفيزياء أو غيرها- إلى "يقين كامل" في أيّ تفسير من تفاسيرنا ؟ كما أنّه توجد مبرهنات رياضية عميقة، تبيّن لنا استحالة البرهان على تجانس منظومة رياضية ما، فإنّه يبدو من المحتمل ألاّ نكون قادرين أبدا على البرهان أنّ قوانين الطبيعة الأساسية متجانسة من وجهة نظر رياضية. لكن ذلك قد لا يقلق العلماء، لأنّنا، حتى لو كنا نعرف أنّ قوانين الطبيعة "متجانسة" رياضيّا، لن نكون متأكدين من صحّتها "النهائية" و "المطلقة".
و الإجابة ستكون، منطقيا و واقعيا بالنفي؛ بما أنّه لا تتوافر لدينا نظرية أو مقاربة تستطيع شرح كل ما يحدث في عالمنا. إلاّ أنّ المعرفة الإنسانية عن الطبيعة، قد توسّعت توسّعا هائلا في القرن الماضي؛ حيث تمّ اكتشاف خواص ميكروسكوپية، و مجاوزة الكثير من العوائق المعرفية، منها تلك التي ترسّبت في علم الكيمياء و خواص المادة بمجملها؛ ففي مجالات الفيزياء هذه و غيرها، بمقدورنا الإجابة على مساءلات لم يكن ممكنا مناقشتها من خلال تصورات الخطاب "الكلاسيكي".
و يمكن سياق مثال حيّ حول "تييورام" الجسيمات الأولية، حيث يرجع الفضل لبعض الفلاسفة الإغريق، مثل ديمقريطس، لوقيبوس، هيرقليطس...، لكونهم "أول" من قدّم مفهوم الذرات في نظرية المادة(و ليس هذا استثناء، فاحتمال أنّ آخرين قد سبقوهم بزمن طويل بأفكار مشابهة)، و يجب استدراك هنا أنّ "ذرات القدماء" ليست بالتأكيد نفس "الأشياء" التي تتناولها فيزياء اليوم كذرات. و ليست من الأمور البسيطة في الواقع، أن نفهم بدقة حقيقية ما قصده الفلاسفة الإغريق بمعنى هذا المفهوم، و لكن المسألة الرئيسية التي كانت تشغلهم هي ما إذا كانت المادة يمكن تجزيئها لا نهائيا أم لا، و إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن واجب العلم اكتشاف، و بمقياس متناه الصغر، المكوّنات الأولية للمادة، أو "الذرات". و بالضرورة، سوف يصل هذا التقسيم إلى نهاية، لنجد شيئا ما لا يمكن أن ينقسم بعد، و تلك هي "الذرة" (و المفهوم يعني غير قابل للانقسام). و قد اعتقد "الذريون" الإغريق، بأنّ المواد مبنية بالفعل من "الذرات"، فقد شعروا بأنّ الخواص المتباينة للمادة يمكن أن تشرح بشكل ما بدلالة تشكيلات و حركات مختلفة تماما لـ"لذرات" ؟
و يعتقد علماء الفيزياء المعاصرة اليوم، بشيء مماثل و لكنّه مشوب بالغموض، لكن توجد بالتأكيد فروقات كبيرة بين المقاربات العددية أو الكمية و بين التخمينات الغامضة للقدماء. فـ"ذراتهم" لا تناظر "ذرات اليوم"، لأنّ هذه الأخيرة قابلة للانقسام، بما أنّها مكوّنة من الپروتونات و النيوترونات و الإلكترونات. إنّها بالأحرى الپروتونات و النيوترونات و الإلكترونات، و مجموعة أخرى من الجسيمات الأولية هي التي تلعب دورا "ذرات الإغريق". لكن ماذا نعني بـ'جسيم أولي' ؟
إنّ التعريف "الدقيق" لهذا اللفظ، ما زال إلى حد ما مثيرا للجدل، فهو يعتبر أوليا إذا تعذر وصفه كنظام مركب من جسيمات أكثر أولية. فالجسيم الأولي ليست له "أجزاء" و غير "مركب" من أيّ شيء أبسط، فتصوراتنا الفكرية عن محاولات التقسيم قد أتت إلى نهايتها...
و يمكن الاعتقاد مجددا، أنّ الجوهر في فكرة أنّ المادة غير قابلة لتقسيم لانهائي هو مايلي: أنّنا لا نستطيع الاستمرار إلى الأبد في تحليل الأشياء بدلالة الأجزاء و أجزاء الأجزاء التي تبنى منها. سوف يفقد هذا الأسلوب معناه، حيث تصادف جسيمات غير قابلة للاختصار، و هذه هي الجسيمات الأولية التي تشكّل بنية الكون. لكن بعد كل هذا، كيف نجزم بأنّ الإلكترون في حقيقة الأمر هو جسيم أولي ؟ أليس من الممكن أنّ ما نعتبره اليوم أوليا يوجد في الغد على شكل مركب ؟ فذرات اليوم كانت - على أيّ حال - الجسيمات الأولية في فيزياء القرن التاسع عشر للميلاد(19م)؛ أليس من الممكن أن يعيد تاريخ الفيزياء بناءه من جديد ؟ توجد الكثير من الحقائق التجريبية التي تنفي بقوة هذا الافتراض، و أنّ جسيمات مثل الإلكترون أو الپروتون أو النيوترون لن توجد نهائيا بشكل مركب، شبيه بالتركيب الذي وجدت عليه ذرة الهيدروجين.
إنّ عمليات الخلق و الفناء هي ملامح أساسية للـفيزيس، و من الواضح أنّ هذه الظواهر ليست بأيّ شكل مشابهة للتفاعلات الكيميائية، فيمكن وصف التفاعل الكيميائي على أنّه جزيئات "جديدة" نتجت عن المكوّنات الألوية لجزيئات أخرى، و لخدمة هذا الغرض تكون الذرات هي المكوّنات الأولية للجزيئات. و على نقيض ذلك، اعتبر التصادم الذي ينتج عنه الجسيمان الداخلان أصلا في التصادم، بالإضافة إلى عدد من الجسيمات "الجديدة" التي نتجت عن التفاعل. لكن لا يمكن وصف هذه الظاهرة بدلالة إعادة توزيع المكوّنات الألوية في أنظمة مركبة "جديدة"، كما لا يمكن أن يسري هذا الوصف على الأحداث التي تختفي فيها بعض الجسيمات "الأصلية" الداخلة في التفاعل. و كمثال توضيحي للحدث الأخير هو فناء زوج الإلكترون/ البوزيترون، إذ تختفي تماما الجسيمات المادية الموجودة أصلا، مخلّفة وراءها أشعة جاما. و عليه، لا يمكن أبدا التوصّل إلى "نظرية نهائية"(Last Theory) مبنية على أنّ المادة قابلة للتقسيم اللامتناهي، فمثل هذه المحاولة تبدو أمرا مستبعدا.
و لكنّ ما خلفية الأزمة ؟(What the Background of the Crisis ?)، ما مكوّنات هذه الأزمة ؟ قبل القرن التاسع عشر، لم يعتقد أيّ عالم أنّ العلاقات المتبادلة بين العقل و الجسم ستنتج أفكارا و معطيات جديّة. إنّ الأزمة أصلها "ثقافي"، و بالتالي فالأزمة ليست أزمة بقدر ما هي جزء من النمط الكامل للثقافة، و عندما يتغيّر النمط(الپراديڤم) تتغيّر الأسئلة. كان النمط السائد قائم على أنّ كل شيء في العالم يعمل بنفس الكيفية التي تعمل بها المكائن، فالأشياء تؤثر في بعضها البعض عن طريق التلامس المباشر(المادي المتشيّء) فحسب، نحو الشكل الذي يدفع القضيب المربوط بالعجلة دائريا، و قد بيّن نيوتن، في أكثر من مثال، كيف ينطبق هذا الپراديڤم الميكانيكي على حركة التوابع، فازدادت مكانته و أصبح مقبولا للتفسير.
و إلى غاية نهاية القرن(أي التاسع عشر للميلاد)، كان مطبّقا لكل ما يبدو من أشياء بما فيها تطور الأنواع و الأفعال الاجتماعية و حتى الإدراك نفسه. و وفق هذا النمط من التفكير رفضت كل الأفكار القائلة بوجود الأرواح و بقائها بعد الموت البيولوجي للبشر. فأما الآلات الميكانيكية و الوسائل الفيزيائية ليست لها أرواح و لا تستطيع "أن تقاوم" بعد الانفصال أو التعطّل، لذلك نفس الشيء أصبح ينطبق على "الميكانيكية البشرية" التي تعمل بنفس طريقة الآلة، و خاصّة إذا كانت خاضعة لنفس القوانين و الميكانيزمات.
و بناءا على ما تقدم، أصبحت الفلسفة المادية و الميكانيكية الثقافة السائدة كنزعة علمية "صارمة"، و هنا ظهر نوع من الميل للبحث عن الظواهر العلمية، كتفسير بنية الذرة بمنطق فيزيائي بحت، أو معارضة نتائج النظرية الكمية القائمة على مبدأ اللادقة أو اللاتحديد لهايزنبرڤ(Heinsenberg)، على أساس أنّ "كل شيء" يمكن قياسه بدقة، ففي التجارب الفكرية تمّ تناول الحالة بين فوتونين متشاكلين أو مترابطين، الواحد مقيّد حركته بالنسبة للآخر، لو كان الأول يدور من اليمين إلى اليسار، و لو بدّل الأول حركته إلى العكس فإنّ الثاني سيبدّل حالته كذلك، ليبقيا بنفس حالة الترابط. و مهما كانت المسافة بينهما و تبديل لحالة أو ما يعني التخاطر بينهما تجري في زمن صفر؛ أي ربما بأسرع من سرعة الضوء، و هذه ظاهرة لا يمكن لفيزياء البصريات تفسيرها علميا.
إنّ "قبول" بعض علماء الفيزياء المعاصرين بوجود وقائع و ظواهر طبيعية فوق- حسية(Extrasensory Perception)، يظهر الأزمة النظرية التي تعيشها بعض النظريات الفيزيائية، هذه الأزمة تؤدي إلى إعاقة قبول هذه النظريات علميا و قبول برامج البحث للوصول إلى نتائج أكثر أهمية. لذلك، بدأ التفكير في "التخلّي" تدريجيا عن الغاية(Aim) و عن المنهجية(Method) ؟ و بدأ في النظر إلى بعض الملاحظات العلمية "المنعزلة" (أي اللامتكررة) كنقاط تحوّل مركزية جديرة بالبحث و الدراسة. فقد أدى تحليل بعض الحوادث "المرتجلة" و الأفكار التي كانت تبدو "خاطئة" إلى وضع دليل أساسي لأبحاث علمية، و هنا بدأ الابتعاد عن فكرة ضرورة وجود پراديڤمات متعددة تكون مرتبطة بظواهر الخبرة الأساسية المختلفة(Different aspects of experience).
حتى ماكس پلانك(M.Plank) عام 1900م، كان يرى أنّ مبادئ النظام الميتافيزيقي(Metaphysical system) مهمة لتفسير و تحليل العوالم الصغيرة أو الجزيئية(Microcosmos) اللامدركة من طرف الحواس، و لإيجاد "القوانين" التي تنسب لها المعطيات، يجب أن "تنحاز" عن النظام المألوف لحقل الخبرة المحسوس، أو كما يقول شرودنڤر:
« كلّما تعمّقنا في مسافات أصغر و بأزمنة أصغر، وجدنا الطبيعة تتصرّف تصرفا مختلفا جدا عمّا تعوّدنا على ملاحظته في الأجسام المرئية المحسوسة، و أنّ أيّ پراديڤم معتمد على خبراتنا في القياسات الملاحظة لا يمكن أبدا أن يكون شيئا حقيقيا »(5).
إنّ أيّ حقل خاص أو استثنائي يتطلّب نظام مغاير للأنظمة السابقة؛ نظام تفسير ميتافيزيقي متعلّق بخبراتنا الباطنية، و هذا الحقل لا يحوي "أشياءا" بل عمليات مدركة شخصيا من طرف الذات الوحيدة فقط، دون "تدخل" عقل الجماعة، و بالتالي فعملية الاتّفاق حول هذه العمليات و ماهيتها أمر "مرفوض" و "غير منطقي".
لذلك، بات أمرا مؤكدا أنّ نظاما واحدا في العلوم لا يمكنه تفسير جميع الظواهر و الخبرات، حتّى أنّنا تحوّلنا من الاعتقاد بأنّنا نعيش في "كون واحد" إلى معرفة أنّنا نعيش في "أكوان متعددة"("Pluriverse"). و بموازاة هذا التغيّر، لاحظ العلماء أنّ غالبية الكائنات البشرية قد نظّمت كل خبرتها في طرائق مختلفة لمقاصد متعدّدة، فجميع المنظومات كيّفت لغايات محددة.
لقد "تحقّق" العلم تدريجيا من أنّه لا يمكن للإنسان إدراك ما هو واقع ؟ لكن بإمكانه وعي و معرفة الواقع ؟ بل ما من الواقع ؟ فرغم التفسيرات العلمية المنجزة من طرف پلانك، أينشتين، و إيديڤتون، لم يحدث تقدم يذكر في حقول الفيزياء المعاصرة، و مرد ذلك، أنّ النظريات و تصميم التجارب لا تزال قائمة على وجود نظام تفسير واحد؛ أي وجود نظام فيزيائي عالمي - شمولي واحد و "صحيح"، نحو إيمان العلماء بالوحدات و الثوابت الفيزيائية كثابتي پلانك و أفوڤادرو...، و هذا هو النظام الذي أعطى فيزياء و ميكانيك نيوتن "قوّتها" و حضورها العلميين.
بالمقابل، تعتبر الفرضية حول طبيعة تركيب الكواركات نتيجة مهمة و ضرورية لتحليل الپراديڤمات المختلفة لنظريات البيڤ بانڤ أو الأوتار الفائقة أو التماثل الفائق، الخاصة بالجسيمات الأولية المشكّلة للكون. إنّ درجة التعقيد التي وصلت إليها كمات المجال فائق التماثل و كثرة مركباتها، و درجة تنوع صفاتها الفيزيائية أديتا ذاتيا إلى فكرة تقول:
" ألاّ تتركب الكواركات و الڤلوونات و مركباتها من جسيمات ما أكثر صغرا و بساطة، تنتمي إلى المستوى التالي "بعد الكواركي" للمادة ؟ ". ليس لدينا غير التخمين بشأن هذه الجسيمات، فلا تتوفر حتى الآن أيّة معطيات تجريبية. و مع ذلك، يضع الفيزيائيون براديڤمات مختلفة لتركيب الكواركات و يواصلون دراستها، و ما هذا إلاّ فرضيات. فمن الصعوبة القول حتى الآن ماذا يجري فعلا في مجال المسافات القصيرة جدا ؟ و ما يزال "التوحيد الشامل" في مرحلة الطفولة من حياته، و يعتبر هذا المجال حتى الوقت الحاضر من بنات الخيال النظري، حيث الأسئلة و الألغاز تفوق بكثير الأجوبة و "الحلول"؛ عالم "كامل" من الأشكال و الصور المجردة، و مجال رحب لأجرأ الفرضيات الممكنة.
إنّ النظرية في الفيزياء المعاصرة تتمتّع بمكانة بالغة الأهمية، فهي تمد الجسور بين "الحقائق التجريبية" المتناثرة، و تمكّن بطريقة التقدير الاستقرائي من الذهاب بعيدا عنها إلى عوالم مجهولة. لتصبح المسائل الفيزيائية تنزع نحو الأساطير و الألغاز، و هنا يبدو أنّ "التوحيد الأعظم" للقوى الأساسية الأربعة في الطبيعة يسمح بحساب و توضيح "أيّة" ظاهرة فيزيائية، و أنّ بضع معادلات كافية لتفسير نشأة و صيرورة الكون بأسره، بما في ذلك الفيزياء و الكيمياء و البيولوجيا و حتى السيكولوجيا؛ ذلك لأنّها تتضمّن في أساسها عمليات مادية أيضا. و بذلك سيتم "بلوغ" الهدف الأساسي للعلم، و لن يبقى أمام العلماء سوى استخدام، مرة و إلى الأبد، قوانين الطبيعة "المقررة لحل" مسائل تطبيقية محددة. و سيتطلب الأمر تحويل الظاهرة التي تجرى دراستها إلى ظواهر أكثر بساطة، و بذلك سيكون من الممكن حل أيّة مسألة مهما كانت، و هكذا لن يكون هناك مزيدا من الأسرار و الألغاز...
إلاّ أنّه لا يجوز الاتّفاق مع هذا أبدا، فالطبيعة "لا تنفذ" و لذلك، فمهما كانت النظرية "مكتملة"، سيعثر دائما على ظواهر تخرج عن نطاقها، و لن يتم أبدا بناء نظرية نهائية و شاملة.
ثمّة إشكال:
كيف لنا أن نعرف هل أنّ الطبيعة نهائية في تنوعها الكيفي أم أنّها لانهائية ؟ و من أين البراهين على هذه الصفة أو تلك للطبيعة ؟
إنّ التسليم "ببساطة" و بدون تحفظات بلانهائية الكون الذي يحيطنا أمر ينطوي على غاية الخطورة؛ إنّ تاريخ البشرية "قصير جدا"، لذلك، لا يمكن اعتبار هذا الافتراض "حقيقة ثابتة" و مؤكدة. فقد يحدث أن تؤدي معرفة عدد كبير جدا من الحقائق و الروابط فيما بينها، إلى "ذرى المعرفة" الخاصة، الفريدة في نوعها، يبدأ بعدها عدد الاستفهامات التي لا جواب لها بالتناقص.
فعلا، لقد اعتقد منظري الخطاب الفيزيائي المعاصر، في كثير من المرات، أنّهم بلغوا تقريبا الفهم التام لقوانين الطبيعة، و لم يبق غير غموض يتعلّق بالتفاصيل. و في كل مرة، كانت محاولاتهم "للتخلّص" من هذا "التقريب" و وضع نظرية "نهائية" و غير متناقضة تبوء بـ"الـفشل". و بقيت بصفة مستمرة أسئلة "مصرة" على عدم إيجاد أجوبة لها، و تحولت إلى متناقضات و أزمات نشأت منها أخيرا نظرية "جديدة". و من القضايا غير الواضحة، مثلا، كيف يتحدد مقدار سرعة الضوء و شحنة الإلكترون و الثوابت العالمية الأخرى ؟ و لماذا هي على هذا الشكل الذي تملكه الآن، و ليس على شكل مغاير ؟ و على أيّة صورة ستكون النظرية "ما بعد الكمية" القادمة، التي قد تستطيع، في نهاية المطاف، أن تفسر بجلاء طبيعة الأثر الذي تتركه الجسيمات الكمية لدى تحركها في "فراغ تام" ؟
إنّ أيّة نظرية، مهما كانت درجة شموليتها، تحوي دائما بعض الأحكام الأولية كبديهيات أو "ثوابت"، لا تستخرج من داخل النظرية المعيّنة، و إنّما تعطى من الخارج، على أساس التحليل و تعميم معطيات التجارب. و لا يمكن أن توجد نظرية "مطلقة" و منغلقة على نفسها، فإثباتها يمكن فقط في إطار بناء نظري أعم يتحدد بدوره في نظرية أكثر شمولا.
و ليس من نهاية لهذه السلسلة، و كما بيّنت التجارب، فإنّ عدد الاستفهامات القاعدية التي تبرز في عملية تطور العلم لا تقل فحسب، كما افترض ذلك فاينمان(Feynman)، و إنّما على العكس تزداد أكثر فأكثر. و يجوز القول، أنّ الحدود التي "يلامس" بها العلم عالم المجهول تطول على الدوام، فهي تشبه الأفق، كلّما اقتربنا منه، يبتعد عنّا أكثر فأكثر...
و فضلا عمّا سبق، فحتى النظريات التي قد وضعت و أعدّت بصورة محكمة نسبيا، و تلك التي في حركة دائمة، تتغيّر و يجرى استكمالها، و أحسن مثال على ما نذهب إليه هو الكتب الفيزيائية الحالية(و نحن نقصد كتب: هاوكينڤ، ويكمان، واينبرڤ، فاينمان...)، غالبا ما تصوّر الظاهرة، و كأنّ هناك مجالين مفصولين بدقة أحدهما عن الآخر؛ الأول هو ما توصّل إليه العلم مرة و إلى الأبد، و الثاني ما يزال العلم فيه في حالة تطور.
إنّ سلم الأشكال البنيوية و القوانين الفيزيائية المرتبطة بها لا ينفذ، و من هذه الناحية لا يوجد ما يقيّد التطور "اللامتناهي" للعلوم، رغم أنّ الطبيعة لا تشبه عددا لانهائيا من "الأبنية" الموضوعة الواحدة داخل الأخرى، فقد "بني" الكون بصورة أعقد للغاية.
و لسبب آخر، لن تتحقق الآمال في بناء نظرية "موحدة" و "شاملة" للطبيعة، فمن الصحيح أنّه في مجالاتها التي ذكرناها، وجدنا أنّ الكون مبني وفقا لمبدأ المستويات - الطوابق. و يشكّل علم الكيمياء أساسا للبيولوجيا المرتبطة بالجزيئات 'الزلالية' المعقدة، كما تعتمد قوانين الكيمياء بدورها على الفيزياء الذرية، أمّا هذه الأخيرة فتستند إلى النظرية النووية، التي تمتد جذورها إلى فيزياء الجسيمات الأولية. و رغم أنّ المستوى الذي نتحدث عنه يتحدد دائما بالمستوى الأعمق، إلاّ أنّ الأول لا يؤدي إلى الثاني أبدا، فعند الانتقال من مستوى إلى آخر لا يحدث تعقيد كمي فحسب، بل تغيير لكل الانسجام مع قوانين الطبيعة، يشكّل قفزة نوعية "حقيقية" بالمعنى الفلسفي- الدياليكتيكي.
و باتت جميع محاولات توجيه التفكير نحو قوانين الفيزياء وحدها دون أمل علمي يذكر، فمنذ مائتي(200) سنة "تصوّر" العلم الفكر بأنّه شيء مادي - ملموس؛ و قورن مع المادة الصفراء التي يفرزها الكبد. لقد "قطع" علم الفيزيولوجيا أشواطا بعيدة عن مثل هذه التصورات، و نشأ الفكر، دون أدنى شك، على أساس عمليات فيزيائية، لكن هذه العمليات تحوي الكثير من العقد و الانقطاعات الفجائية، و لكل علم مجال نشاطه، و لا يجوز له أن يشغل مكانة غيره من العلوم. و قد حدثت تعارضات مشابهة في وقت لاحق؛ إنّ الطبيعة "تحب" تقديم "مفاجئات" إلى العلماء، بالضبط عندما يعلن عن أنّ بعض خواصها و قوانينها باتت "شاملة" و مؤثرة دائما و في كل مكان.
لكلّ شيء في الكون مجال تطبيقه المحدد، و يجب أن نكون مهيئين إلى أنّ العلم سيكتشف خواص غريبة أخرى للزمن و المكان، لا نستطيع نحن اليوم تصوّرها، أمّا الخواص المعروفة لنا، فعلى العكس، ستفقد أهميتها في نطاق الظواهر "الجديدة". و هكذا، نرى أنّ الكون متنوّع إلى درجة فائقة، و مع ذلك، فهو في أساسه موحد إلى درجة فائقة كذلك.
(1)- 'الفيزياء' لفظ اشتق من اليونانية فيزيكوس(φυσικη)؛ طبيعي، و الكلمة مشتقة من الجذر فيزيس(φύσις)أي: الطبيعة. الفيزياء هو علم الطبيعة، فبدءا من الكوارك البالغ الصغر، إلى الكون الكبير الممتد، تحاول الفيزياء صياغة "قوانين" رياضية "تحكم" هذا العالم المادي الطبيعي، و سبر أغوار تركيب المادة و مكوّناتها الأساسية، و القوى الأساسية التي تتبادلها الجسيمات و الأجسام المادية، إضافة إلى نتائج هذه القوى. أحيانا في الفيزياء المعاصرة، تضاف لهذه المجالات دراسة قوانين التناظر و الانحفاظ، مثل قوانين حفظ الطاقة و الزخم و الشحنة الكهربائية. و لأجل هذا، يدرس الفيزيائيون، مجالا واسعا من الظواهر الفيزيائية تمتد من المجالات الصغيرة المدى إلى المجالات واسعة المدى، و من الجسيمات المادية تحت - الذرية التي تتكون منها جميع المادة الباريونية(فيزياء الجسيمات) من دراسة "سلوك" الأجسام الفيزيائية في العالم "الكلاسيكي"، إلى دراسة حركة النجوم في الفضاء المادي، سواء ضمن السرعات العادية أو قريبا من سرعة الضوء، و أخيرا دراسة الكون في شموليته.
(2)- تترجم غالبا كلمة 'فيزيس'(Phusis) بـ'الطبيعة'، فنستعمل الترجمة اللاتينية 'ناتورا'(Natura)، و التي تعني 'ميلاد'. لكن، بهذه الترجمة نكون قد غيّرنا المحتوى الأصلي للكلمة اليونانية 'فيزيس'، فقوة التعبير الفلسفي الأصلية للمفهوم اليوناني قد تم "تحويره".
و هذا ينطبق على جميع الترجمات الأخرى، إلاّ أنّ هذه الترجمة من اليونانية إلى الرومانية اعتبرت كمرحلة أولى لطور من "الانغلاق" و نقل ما يمثل الماهية الأصلية للفلسفة اليونانية.. و الآن، من واجبنا تجاوز كل هذه "التشويهات" و البحث عن قوة الدلالة "الصحيحة" للغة و للكلمات؛ لأنّ الكلمات و اللغة ليست "أكياسا" صغيرة تحمل الأشياء لإيصال حركة الكلمات و العبارات.
فما معنى كلمة فيزيس(φύσις) ؟
تريد معنى التفتح الذاتي(كتفتح وردة أو زهرة مثلا)، و في هذا التفتح و الظهور رمز للبقاء و "الدوام"(...). إنّ الفيزيس اعتبرت كتفتح(Opening) في الظواهر السماوية، في اضطرابات أمواج البحار، في نمو النباتات و حركة ازدياد البشر و الحيوانات. لكن 'الفيزيس' ليس معناها فقط تلك الظواهر التي لازلنا اليوم ننسبها للطبيعة، فهذا التفتح هو البقاء في الذات نحو الخارج، و هذا التطور لا يمكن دائما ملاحظته من الخارج، إنّ 'الفيزيس' هي الوجود(Existence) نفسه.
لم يبدأ اليونان بمحاكاة الظواهر الطبيعية(الفيزيس)، بل بالعكس، فعلى أساس تجربة أساسية شاعرية و تفكيرية(Dichtenddenkend) للوجود، انفتح ما يسمّى بالفيزيس. و منها، بدؤوا في فهم كنه الطبيعة. و بالتالي، فـ'الفيزيس' تعني أصلا السماء و الأرض، كذلك الحجر و النبات، و أيضا الحيوان و الإنسان...