مفهوم الثقافة وصلته بمفهومي الحضارة والمدنية 
تعد الثقافة الإسلامية من أهم العلوم الإنسانية التي ينبغي على طالب العلم التزود بها, ودراسة مفاهيمها ومضامينها المتنوعة لبناء شخصيته العلمية بناءً يأخذ في الاعتبار ما عبر عنه بعض المفكرين بقوله: " ينبغي أن نعرف أنفسنا, وأن نعرف غيرنا, وأن نُعرف الآخرين بنا ".
ولأهمية الثقافة الإسلامية في ذلك تحقيقًا للذاتية أولا بمقوماتها العقدية والتشريعية والأخلاقية, ورسالتها في الحياة, وفعاليتها في التاريخ والحضارة. وثانيا لتحقيق التواصل الفكري في أبعاده الاجتماعية والإنسانية، ولأهمية الوقوف عليه كمفهوم ومن ثم كمصطلح لعلم بعينه- يجري استجلاء مصطلح الثقافة في النقاط الآتية:
أولا - مفهوم الثقافة في اللغة العربية:
بالرجوع إلى لفظ (الثقافة) ودلالاته في معاجم العربية وقواميسها والقرآن الكريم وعلومه والسنة النبوية وعلومها وكتب التراث الإسلامي بعامه يستخلص أن منها ما يدل على الصفات الذاتية للمتعلم وهي: (الفهم – الفطنة – الحذق - سرعة التعلم - ضبط العلم)، ومنها ما يدل على معنى الآلة حيث استعملت الثقافة أداةً وأسلوبا في (تسوية المعوج وما يدخل في ذلك من التهذيب والإصلاح والتقويم)، ويؤيد هذا ما ورد في بعض المصادر عن آلة كانت تسوى بها الرماح تسمى"الثقافة". ومنها ما يدل على معنى زائد عن الصفات التي يتصف بها المتعلم؛ ليشمل موضوع الثقافة محسوسا كان أو معنىً كما في (الإمساك بالشيء والظفر به ومصادفته وحيازته).
من هنا جاءت تعريفات الثقافة في كتابات المفكرين المسلمين المعاصرين كثيرة ومتنوعة من أبرزها الآتي: "مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"، و"الصورة الحية للأمة فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها وهي التي تضبط سيرها في الحياة وتحدد اتجاهها فيها إنها عقيدتها التي تؤمن بها ومبادئها التي تحرص عليها ونظمها التي تعمل على التزامها وتراثها الذي تخشى عليه من الضياع والاندثار وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار"، وعرفها مجمع اللغة العربية بـ" جملة العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق بها".
ثانيًا - مفهوم الثقافة في اللغات الأخرى:
تعددت دلالات الثقافة في اللغة اللاتينية ثم في اللغات التي تطورت عنها بخاصة الإنجليزية وتطورت حتى أصبحت مصطلحًا لعلم بعينه وخلاصته ذلك في الآتي:
أولا : استُخدم لفظ الثقافة في اللاتينية منذ القدم بمعنى حرث الأرض وزراعتها, وهذا معنى حسي, واستخدمت كذلك في المعنى المجازي بمعنى تهذيب العقل وتنميته. وارتبط هذا المعنى الفلسفي كذلك بتنشئة الناس على تكريم الآلهة, كما أكد بعض الباحثين على أن هذه المعاني للفظ الثقافة ظلت مستمرة طوال العصرين اليوناني والروماني بل استمرت حتى القرون الوسطى حيث أطلقت في فرنسا على الطقوس الدينية.
ثانيا : اقتصر مفهوم الثقافة في الغرب في عصر النهضة على مدلوله الفني والأدبي, فتمثل في دراسات تتناول التربية والإبداع.
ثالثا : عمد فلاسفة القرن السابع عشر الميلادي إلى تطبيق المناهج العلمية في دراسة المسائل الإنسانية، فأفردوا مضمارًا خاصًا للعمليات المتعلقة بمفهوم (الثقافة), واستخدم مفهومها للدلالة على تنمية العقل وغرسه بالذوق والفهم وتزيينه بالمعرفة, واستعملت فيما يبذله الإنسان من عمل لغاية تطويرية سواءً أكانت مادية أم معنوية.
رابعا : وضع (إدوارد تايلور) تعريفًا علميًا يعد من أوفى التعريفات وأشملها لمفهوم الثقافة في الغرب ولا يزال يستخدم في معظم الكتابات ( الانثروبولوجية ) حتى الزمن الراهن هو "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع".
ولمعرفة الصلة بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة والمدنية ينبغي أولًا معرفة مفهوم كل منهما على النحو الآتي:
أولًا: مفهوم الحضارة:
أ- الحضارة في اللغة: يقال: الحضر بخلاف البدو، والحاضرة الحي العظيم. ويقال: الحاضر، وهو ضد المسافر. وجاءت في القرآن الكريم بمعنى الشهادة أو الحضور فمن ذلك قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت)، وقوله: (وإذا حضر القسمة أولو القربى)، وقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه). وشهد بمعنى حضر.
من ذلك يتضح بأن الحضارة لا تدل فقط على الإقامة في المدن بخلاف البدو، وإنما لها معاني الحضور والشهادة المرتكزة على القيم والمبادئ إضافةً إلى المنجزات المادية التي تنتج نموذجا إنسانيا يمثل مرحلة متقدمة في تجربة أي مجتمع، فكثير من المجتمعات الإنسانية تقتصر على مجرد الوجود دون الحضور. ومن ثم لا يمكن إطلاق مفهوم الحضارة عليها طالما وقفت فقط عند مجرد الوجود.
ب- الحضارة في الاصطلاح: عرفها مجمع اللغة العربية بأنها "جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة"، وعرفها مالك بن نبي بأنها "جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أفراده جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة للتقدم".
ج- معاني الحضارة في اللغات الأخرى: يعود أصل الكلمة الأوربية (civilization) إلى الكلمة اللاتينية (civitce) بمعنى مدينة و(civic) بمعنى ساكن المدينة، ولم يشتق منها (civilization) حتى القرن18. ويبدو أن ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة لأول مرة هو مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي تحققت على الأقل بصورة جزئية في حياة المجتمع الأوروبي، وكان من تلك الصفات الأدب واللياقة والنزاهة والرقة والاعتدال وضبط النفس عند الكلام وفي السلوك والفكر, فهذه العناصر أدت إلى ولادة المفهوم الجديد.
وبتطور المجتمع الأوروبي برزت تعريفات لهذا المفهوم متعددة تختلف فيما بينها سواء في الظواهر التي تعبر عنها أو في مضمونها؛ فهناك من جعل المفهوم مرادفا لمفهوم الثقافة (culture) مثل تايلور، ومنهم من جعله قاصرا على نواحي التقدم المادي من آلات ومؤسسات واختراعات، وهناك من جعله شاملا لكل أبعاد التقدم، وهناك من قصر المفهوم على نواحي التقدم الخاصة بالفرد، وهناك من رأى أنها تشمل الفرد والجماعة، وهناك من رأى أنها مفهوم عالمي أي إن هناك حضارة واحدة دائما وأن كل المجتمعات تساهم فيها بنصيب ما أما الثقافة فهي خاصة بكل شعب، وهناك من رأى العكس.
ثانيًا: مفهوم المدنية:
(أ) المدنية في اللغة العربية: اختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة (المدنية)؛ فأرجعها البعض إلى (مَدَن) بمعنى أقام في المكان، وأرجعها آخرون إلى (دان) وهي جذر مفهوم الدين وتعني خضع وأطاع. وقد وردت في القرآن الكريم في مواضع عدة يستنتج منها أن المدينة هي المركز الرئيس الذي ينطلق منها الإشعاع الحضاري، وفيها مقر القيادة وما حولها تبع لها. وقد جاء إطلاق لفظ (المدينة) في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مقترنًا بتأسيس الدولة، وارتبط بمفهوم الدين بما يعنيه من دلالات مثل الطاعة والخضوع والسياسة؛ فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم لفظ المدينة على يثرب في قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم، حبب إلينا المدينة!)
فإطلاق الرسول صلى الله عليه وسلم على يثرب لفظ (المدينة) قرن دلالة (مدن) بمعنى أقام في المكان بدلالة (دان) بمعنى الخضوع للدين والطاعة للسلطان، فأصبحت المدينة ذات نظام حياتي وتنظيمي واجتماعي واقتصادي جديد معبرة بذلك عن مضمون المدنية، وليست مجرد تغيير لاسم المكان محققًا بذلك نقلةً نوعيةً في إعطاء المضمون "للمدنية" في الاستعمال الحديث. وفي ذلك سبق للإسلام.
(ب) المدنية في اللغات الأخرى: الجذر اللاتيني لها هو (civets) بمعنى المدنية أو ما يتعلق بساكن المدينة، وأول ما استخدمت في أوروبا كانت تكتنف ازدراء الرجل المدني للقروي, وكان يقصد به أيضا نمط حياة المدينة بما يعكسه من قيم وسلوكيات ونظم ومؤسسات ... إلخ.
ويمكن القول بأن دلالات المدنية في أوروبا قد مرت بثلاث مراحل هي باختصار:
• مرحلة المدينة ما قبل الصناعية: وهي مدن أساسها المحكمة أو الحصن أو السوق أو الميناء أو هذه الظواهر مجتمعة، فكل مدينه تحتوي على أحد هذه الظواهر أو جميعها يصفونها بالمدنية مثل المدينة الإغريقيه.
• مرحلة المدن الصناعية: أدى ظهور الصناعة إلى ظهور المدن وتطور علاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حيث يتجمع عدد كبير من العمال والمنظمين والفنيين بعد أن انتقلوا من الريف وتركوا الزراعة والري والرعي, وأصبح التمدن أو سكن المدنية وسيلة أساسية لرفع مستوى المعيشة وتحسين الأحوال.
• مرحلة المدن ما بعد الصناعية (المتروبو ليتان): وهي مرحلة التطور الأخير للمدينه بعد التطور والتوسع وظهور مراكز عالمية، وهذه المرحلة أوجدت علاقة تبعية بين مراكز الصناعة والاقتصاد وبين الهامش (مدن العالم الثالث).
صلة مفهوم الثقافه بمفهومي الحضارة والمدنية: من خلال استعراض دلالات كل من الثقافة والحضارة والمدنية في اللغة واستعمالاتها في الاصطلاح يستنتج الآتي: تدل في الأصل على الأشياء المادية المحسوسة، ونقلت من الأشياء المادية المحسوسة إلى المعنويات، وتجمع في بعض استعمالاتها بين الماديات المحسوسة والمعنويات، وتتداخل استعمالات الثقافة والحضارة من جهة واستعمالات الحضارة والمدنية من جهة أخرى؛ فإذا اقترن مفهوم الثقافة بالحضارة في الاستعمال أفاد مفهوم الثقافة بالجوانب الفكرية كمرجعية وخلفية للمنجز المادي النوعي الذي تفيد به الحضارة، وإذا اقترن مفهوم الحضارة بالمدنية ناب عن مفهوم الثقافة وأفادت المدنية بمفهوم الحضارة.
ويلحظ بين كل من الثقافة والحضارة عموم وخصوص متبادل؛ ففي بعض الاستعمالات تكون الحضارة أعم والثقافة أخص وبناء على ذلك فلكل حضارة ثقافة وليس لكل ثقافة حضارة، وفي بعض الاستعمالات تكون الثقافة هي الأعم فيكون لكل ثقافة حضارة وليس لكل حضارة ثقافة. وينطبق هذا العموم والخصوص على الحضارة والمدنية إذا اقترنتا بصفة أو أخرى، ويمكن التحديد في دلالة كل من الثقافة والحضارة والمدنية من أجل التمييز بين المفاهيم بالنظر في الآتي: الثقافة تعد بمثابة الخارطة الذهنية للحضارة والمرجعية للمدنية، والحضارة تتجسد في المنجزات المادية ومنتجاتها، والمدنية تتمثل في الأساليب التي تعمل بها المؤسسات الحضارية من النواحي الإدارية والقانونية وضبط السلوك العام.
وبناء على هذا تتضح الصلة بين الثقافة والحضارة والمدنية؛ فالثقافة تصبغ الحضارة والمدنية بصبغتها ولها خصوصيتها الزمانية والمكانية والتاريخية، والحضارة كمنجز مادي قابلة للتنوع الثقافي وهي موروث مشاع بين الأمم والشعوب، وكذلك المدنية من حيث هي أساليب إنسانية تختلف مرجعيتها وخلفيتها الفكرية فتحكمها أحيانا الخصوصية الثقافية وتكون في أحيان أخرى عملا مؤسسيا إنسانيا مشتركا قد يتعارض مع الخصوصية الثقافية وقد لا يتعارض ولا تخلع عليه القداسة والعصمة.
نستخلص من ذلك كله: أهمية الثقافة وكونها بمثابة الروح لكل من الحضارة والمدنية، وأنها ترتكز على العقائد والمبادئ والقيم والعادات والأعراف والتقاليد، وهذا مكمن الخطورة والخصوصية الجديرة بالوعي والإدراك لئلا تعمم النماذج المجهزة الموجهة بدعوى المنجز الحضاري أو الأسلوب المدني ولكي تُرعى الخصوصية الثقافية.