[ رحلة إلى ابن الرومي ]
"هيا امتط صهوة جوادك أمامنا مشوار طويل لا يجدر بك أن تتأخر ، دعنا ننتقل من زمن المادة التي أفسدت أذواقنا وجعلت حياتنا مكتئبة مضطربة ، دعنا نعد إلى التاريخ ، دعنا نشم عبق الماضي ، دعنا نتفيأ ظلال الحضارة الحقة لا الحضارة الزائفة . هيا أسرع ...
نحن الآن على مقربة من مركز حضارة الدولة العباسية ، بل مشعل النور الذي أضاء حضارة الأمة العربية والإسلامية كلها . هل سألت نفسك أي سنة نعيش أحداثها الآن ؟
إنها السنة الثالثة والثمانون بعد المئتين من الهجرة . لقد مات في هذه السنة رجل أبهر ذوي الألباب ، هل تعرفه ؟ أنا على يقين أنك تعرفه حتى وإن تجاهلته ! هل ستفعل مثل ما فعل نقاد عصره، بل حتى نقاد عصرنا الحديث ؟
نسوه بل تناسوه . سوف أجيبك على يقين مني أنك تعرفه . إنه شاعر العربية الكبير الذي يعد ديوانه أطول دواوين الشعر العربي ، إنه علي بن العباس المعروف بابن الرومي . أخي هب لي بعض الوقت . لا تقاطعني ، دعني أبح لك بما في صدري تجاه هذا الإنسان الذي امتلك العقول وحرك العواطف .
ابن الرومي ذلك الشاعر رائد المدرسة العقلية في الشعر ، رب المعاني الذي يقلبها حيث يشاء . وقد أصاب طه حسين عندما عده و أبا تمام من مدرسة واحدة هي مدرسة المعاني ، لكنهما يختلفان في طريقة معالجتها ، فأبو تمام يغوص في المعنى حتى إذا تأكد أنه فُهم تحوّل منه إلى غيره . أما ابن الرومي فيقلب المعنى على جميع الوجوه حتى يأتي فيه بجميع الصور . لم يعجبني طه حسين عندما فسر ذلك بكون طريقة ابن الرومي تدل على استخفاف بعقليات القراء والمستمعين بعكس طريقة أبي تمام التي تنبع من احترامه لعقلياتهم ؛ لأن الشعر أولاً وأخيراً يعتمد على العاطفة اعتماداً كبيراً فتقليب المعنى وتصويره من عدة وجوه مدعاة إلى تصويره في أذهان المتلقين تصويراً مثالياً وكأنه صورة حية مباشرة لما يعانيه الشاعر من حب أو ألم ، ولا أدل على ذلك من رثائه لابنه الأوسط محمد ، فكم تحس النفس بالألم وتجهش العين بالبكاء عندما تُسمع قصيدته التي تعبر عن معاناة الشاعر بدقة متناهية ، وانظر إلى أخرى لتعيش معنى الحب واللوعة والشوق إلى المحبوب بكل صوره في قصيدته الغزلية في وحيد . إني أرى هذا الشاعر قد ظُلم كثيراً عندما صُوّر بأنه إنسان متشائم متطير يعيش قلقاً نفسياً رهيباً ، فوُضعت له القصص الملفقة .
وأنا هنا لا أنفي التشاؤم والقلق في الشاعر ولكن ليس إلى الدرجة التي وضعت له ، فأشعاره كثيرةٌ لا تصور هذا فقط . لماذا نهتم بجانب ونغفل جانباً آخر . في شعره الكثير من الحكم والمدح والحب والتفاؤل . ولعل الذي غلف بعض جوانب حياته باليأس ما مر به من أحداث عظيمة لو مرت بآخر لهدت قواه ومنها موت أمه و زوجته وأخيه وثلاثة من أبنائه . ولا أنسى نقاد عصره الذين أهملوه ، فعملوا المقارنات بين أبي تمام والبحتري والمتنبي أيهم أشعر ؟ من أمثال أبي العلاء المعري وابن الأثير وغيرهما .
وأنا أرى ذلك الإهمال من عدة وجوه محتملة :
أولها كون ابن الرومي لم يكن عربي الأصل في وقت كانت الشعوبية تسيطر على أجواء عصر الدولة العباسية .
ثانيها كون ابن الرومي غير ميّال إلى الخلفاء والأمراء والولاة للتزلف وكسب الهدايا والهبات، فلم ترد له قصص كثيرة في ذلك .
ثالثها كون ابن الرومي ذا مزاج متقلب مما يوحي بغربة نفسية كان يعيشها كردة فعل لما عاناه في حياته من مآسي .
رابعها طريقته الشعرية في استقصاء المعاني التي تعتبر حديثة في عصره لم يتعود عليها أبناء جيله من الشعراء والأدباء والنقاد .
وربما كانت هناك وجوه أخرى تسوغ إهمال النقاد له . ومهما يكن من شيء فلا يزال ابن الرومي شاعر العربية الكبير الذي لابد أن تكتب أشعاره بأحرف من ذهب ، فهي تعبر عن عقلية عظيمة وعبقرية نادرة . أخي ما رأيك بهذه الرحلة ؟ هل شكلت لديك علامات استفهام ؟ هل بلورت أمامك علامات تعجب ؟
يسرني أن تتأملها وتشاركني الرأي . افعل ...........
ابن الرومي هو أبو الحسن علي بن عباس بن جريح مولى عبد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي، الشهير بابن الرومي الشاعر. (2 رجب 221هـ بغداد - 283هـ).
كان ابن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى، ولا يشكّ أنّه رومي الأصل، فإنّه يذكره ويؤكّده في مواضع من ديوانه.
وكانت أُمّه من أصل فارسي ، وهي امرأة تقية صالحة رحيمة ، كما هو واضح من رثائه لها .
ابن الرومي شاعر كبير من العصر العباسي، من طبقة بشار والمتنبي، شهدت حياته الكثير من المآسي والتي تركت آثارها على قصائده، تنوعت أشعاره بين المدح والهجاء والفخر والرثاء، وكان من الشعراء المتميزين في عصره، وله ديوان شعر مطبوع.
قال عنه طه حسين" نحن نعلم أنه كان سيء الحظ في حياته، ولم يكن محبباً إلى الناس، وإنما كان مبغضاً إليهم، وكان مُحسداً أيضاً، ولم يكن أمره مقصوراً على سوء حظه، بل ربما كان سوء طبيعته، فقد كان حاد المزاج، مضطربه، معتل الطبع، ضعيف الأعصاب، حاد الحس جداً، يكاد يبلغ من ذلك الإسراف"
قال ابن خلكان في وصفه: "الشاعر المشهور صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن صورة ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى أخره ولا يبقي فيه بقية".
اخذ ابن الرومي العلم عن محمد بن حبيب، وعكف على نظم الشعر مبكراً، وقد تعرض على مدار حياته للكثير من الكوارث والنكبات والتي توالت عليه غير مانحة إياه فرصة للتفاؤل، فجاءت أشعاره انعكاساً لما مر به، وإذا نظرنا إلى تاريخ المآسي الذي مر به نجد انه ورث عن والده أملاكاً كثيرة أضاع جزء كبير منها بإسرافه ولهوه، أما الجزء الباقي فدمرته الكوارث حيث احترقت ضيعته، وغصبت داره، وأتى الجراد على زرعه، وجاء الموت ليفرط عقد عائلته واحداً تلو الأخر، فبعد وفاة والده، توفيت والدته ثم أخوه الأكبر وخالته، وبعد أن تزوج توفيت زوجته وأولاده الثلاثة.
مما قاله في وفاة أحد أبناؤه
بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا iiيُجْدي فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا iiعندي بُنَيَّ الذي أهْدَتْهُ كَفَّايَ iiللثَّرَى فَيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرة iiالمُهدِي ألا قاتَل اللَّهُ المنايا iiورَمْيَها من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على iiعَمْدِ تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أوْسَطَ صبْيَتي فلله كيفَ اخْتار وَاسطَةَ iiالعِقْدِ على حينََ شمْتُ الخيْرَ من لَمَحَاتِهِ وآنَسْتُ من أفْعاله آيةَ iiالرُّشدِ طَوَاهُ الرَّدَى عنِّي فأضحَى iiمَزَارُهُ بعيداً على قُرْب قريباً على iiبُعْدِ لقد أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها وأخْلَفَتِ الآمالُ ما كان من iiوعْدِ لقَد قلَّ بين المهْد واللَّحْد iiلُبْثُهُ فلم ينْسَ عهْدَ المهْد إذ ضُمَّ في اللَّحْدِ
ولعل هذه الأحداث التي ذكرناها سابقاً قد شكلت طبعه وأخلاقه فقد مال إلى التشاؤم والانغلاق، وأصبحت حياته مضطربة، وأصبح هو غريب الأطوار خاضع للوهم والخوف، يتوقع السوء دائماً، فقام الناس بالسخرية منه والابتعاد عنه واضطهاده، ومن جانبه نقم على مجتمعه وحياته فأتجه إلى هجاء كل شخص وكل شيء يضايقه أو يسيء إليه.
شعره
عاصر ابن الرومي عصور ثمانية من الخلفاء العباسيين، وكان معظمهم يرفضون مديحه يردون إليه قصائده، ويمتنعون عن بذل العطايا له، مما قاله في ذلك:
قد بُلينا في دهرنا بملوكٍ أدباءٍ عَلِمْتُهمْ iiشعراءِ إن أجدنا في مدحِهم حسدونا فحُرِمنا منهُمْ ثوابَ iiالثناءِ أو أسأنا في مَدْحهم أنَّبونا وهَجَوْا شعرَنا أشدَّ iiهجاءِ قد أقاموا نفوسَهم لذوي المدْحِ مُقامَ الأندادِ iiوالنظراءِ
تميز ابن الرومي بصدق إحساسه، فأبتعد عن المراءاة والتلفيق، وعمل على مزج الفخر بالمدح، وفي مدحه أكثر من الشكوى والأنين وعمل على مشاركة السامع له في مصائبه، وتذكيره بالألم والموت، كما كان حاد المزاج، ومن أكثر شعراء عصره قدرة على الوصف وابلغهم هجاء، أبحر في دروب الشعر المختلفة، فجاءت أشعاره مبدعة في الحركة والتشخيص والوصف، واعتنى بالموسيقى والقافية.
عرف ابن الرومي بإجادته الكثير من الأشكال الشعرية والتي جاء على رأسها الهجاء، فكان هجاؤه للأفراد قاسي يقدم الشخص الذي يقوم بهجاؤه في صورة كاريكاتورية ساخرة مثيرة للضحك.
قال عنه المرزباني " لا أعلم أنه مدح أحداً من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه ولذلك قلت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء".
قال في وصف البحتري:
البُحْتُريُّ ذَنُوبُ الوجهِ نعرفُهُ وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا iiأدبِ أَنَّى يقولُ من الأقوال iiأَثْقَبَهَا من راح يحملُ وجهاً سابغَ iiالذَنَبِ أوْلى بِمَنْ عظمتْ في الناس iiلحيتُهُ من نِحلة الشعر أن يُدْعَى أبا العجبِ وحسبُه من حِباءِ القوم أن iiيهبوا له قفاهُ إذا ما مَرَّ iiبالعُصَبِ ما كنت أحسِبُ مكسوَّاً كَلحيته يُعفَى من القَفْدِ أو يُدْعى بلا iiلقبِ
قام ابن الرومي بمدح أبي القاسم الشطرنجي، والقاسم بن عبد الله وزير المعتضد، وأجاد ابن الرومي في وصف الطبيعة، وتفوق في هذا عن غيره من الشعراء، وقد تفاعل وجدانياً مع عناصرها وأجوائها، فقام بالتعبير عنها ومن خلالها، وأغرم بها.
مما قاله في وصفها:
ورياضٍ تخايلُ الأرض iiفيها خُيلاء الفتاة في iiالأبرادِ ذات وشيْ تناسَجَتْهُ iiسوارٍ لَبقاتٌ بحْوكِه iiوغوادِ شكرتْ نعمةَ الوليِّ على الوسْمِيِّ ثم العِهاد بعد iiالعِهادِ فهي تُثني على السماء iiثناء طيِّب النشر شائعاً في iiالبلادِ
وجاءت حكمة ابن الرومي كنتيجة منطقية لمسيرة حياته، فقال:
عدوُّكَ من صديقك مستفاد فلا تستكثرنَّ من الصِّحابَ فإن الداءَ أكثرَ ما iiتراهُ يحولُ من الطعام أو الشرابِ إذا انقلبَ الصديقُ غدا iiعدواً مُبيناً والأمورُ إلى انقلابِ
وقد أبدع ابن الرومي في الرثاء وذلك نظراً لما عاناه في حياته من كثرة الآلام والكوارث التي تعرض لها، وكان رثاؤه الذي قاله في ابنه الأوسط يعبر عن مدى الألم والحزن في نفسه، كما له رثاء في "خراب البصرة"، ومما قاله في رثاء أبنه:
أبُنَيّ إنك والعزاءَ معاً بالأمس لُفَّ عليكما كفنُ فإذا تناولتُ العزاء iiأبى نَيْلِيه أن قد ضمَّه iiالجُننُ أبُنيّ إن أحزنْ عليك iiفلي في أن فقدتُك ساعةً iiحزنُ وإن افتقدت الحُزن مفتقِداً لُبِّي لفقدِك للحَرِي القَمِنُ بل لا إخال شجاك iiتَعْدَمُه روحٌ ألمَّ بها ولا iiبَدنُ
وفاته
توفي ابن الرومي مسموماً ودفن ببغداد عام 283هـ - 896م، قال العقاد" أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سلمان بن وهب، وزير الإمام المعتضد، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراش، فأطعمه حلوى مسمومة، وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلي أين تذهب؟ فقال: إلي الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلم على والدي: فقال له: ما طريقي إلي النار.
أجمل قصائد ابن الرومي قصيدة (كفـى بالشيـب )
كفـى بالشيـب من نـاهٍ مطـاعِ
علـى كَـرهٍ ومن داع مـجـاب
حططت إلى النهى رحلـي وكلَّـت
مطيَّـة باطلــي بعـد الهبــاب
وقلـتُ مسلِّمـاً للسيـب : أهـلاً
بـهادي المخطئيـن إلى الصـواب
ألسـت مبشِّـري فـي كل يـوم
بوشـك ترحّلـي إثـر الشّبـاب
لقـد بشَّرتنـي بلحـاق مـاض
أحـبَّ إليَّ مـن بـرد الشَّـراب
فلسـت مسمِّيـاً بشـراك نعْيـاً
وإن أوعدت نفسـي بالذهــاب
لك البشرى وما بشـراك عنـدي
سـوى ترقيع وهيـك بالخطـاب
وأنت وإن فتكت بـحبِّ نفسـي
وصاحب لذَّتـي دون الصِّحـاب
فقد أعتبتنـي ، وأمـتَّ حقـدي
بِحَثِّـك خلفـهُ عَجِـلاً رِكابـي
إذا الـحقتنـي بشقيـق عيشتـي
فقـد وفَّيتنـي فيـه ثـوابــي
وحسبـي من ثوابـي فيـه أنـي
وإيَّـاه نـثـوب إلـى مــآب
لعمـرك ما الحيـاة لكـل حـيٍّ
إذا فقدت الشبـاب سوى عـذاب
فقـل لبنـات دهـري فلتُصِبنـي
إذا ولَّـى ، بـأسهمـها الصُّيَّـاب
سقـى عهـدَ الشبيبـة كلَّ غيـثٍ
أغـرَّ مُجَلجَـلٍ دانـي الـرَّبـاب
ليالـي لـم أقـل : سقـياً لعهـد
ولـم أرغـب إلى سُقـيا سحـاب