العولمة
كلمة ألعولمة باللغة العربية، والبعض سماها ب(الشوملة) هي ترجمة للكلمة الإنجليزيةGlobalization والكلمة الفرنسية Mondialisation فالكلمة تعني وضع الشيء على مستوى عالمي ،أو تعميم خاص وطني ليصبح عالميا ، أو هي مسعى لإزالة الحدود والموانع ما بين الدول للسماح بحرية الأفكار والثقافات والأموال والسلع دون قيود تفرضها السيادة الوطنية أو الخصوصيات القومية. ومن هنا تأتي التخوفات من العولمة، ففتح الحدود وإلغاء السيادة القومية يجعل العالم سوقا مفتوحة يحكمها مبدأ البقاء للأصلح والأقوى، الأقوى ثقافيا والأقوى اقتصاديا. وحيث أن المروج للعولمة والمدافع عنها هي الدول المتقدمة صناعيا وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا معناه إنها المستفيدة من العولمة، لأن اقتصادها أصبح من القوة والتضخم بحيث لم تعد الحدود والسوق الوطنية وخصوصا بالنسبة للولايات المتحدة قادرة على الاستجابة لمتطلبات هذا الاقتصاد المتضخم ،ولأن اقتصادها وثقافتها ومجتمعاتها في منعة من التهديدات الخارجية التي قد تفرزها العولمة.
نظرا للتداخل الوثيق اليوم ما بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، يجب الافتراض إن لم يكن التأكيد على أن من يتحكم بالاقتصاد العالمي سيكون معنيا بعولمة ثقافته وقوانينه وأنماط سلوكه لتسهيل انتشاره وتغلغله الاقتصادي، ومن هنا تصاحب الحديث عن العولمة الاقتصادية بالحديث عن العولمة الثقافية والعولمة السياسية (تعميم الديمقراطية) والعولمة القانونية (على مستوى القانون الدولي العام وتأسيس شرعية دولية جديدة وعلى مستوى القوانين الداخلية أي القانون الخاص :في الاقتصاد والتجارة وحتى التشريع في مجال مدونة الأحوال الشخصية ) .لا يعني هذا أن من يملك الاقتصاد الأقوى والأفضل يملك الثقافة الأفضل والقيم الأفضل ،فالأمر يرتبط بإمكانيات وليس أفضليات، فبالمال يمكن امتلاك وسائل الإعلام المتطورة وكل مشتملات الثورة المعلوماتية والتأثير على سياسات الدول الأقل قوة اقتصادية وشراء الأدمغة بل والمثقفين أحيانا وتوجيه كل ذلك لتعميم قيم ثقافية وسياسية تخدم فلسفة الأقوى اقتصاديا.
إن أية محاولة لتفكيك مفهوم العولمة من اجل مقاربته إجرائيا تتطلب من الباحث الغوص في حقول معرفية متعددة كعلم اللغة واللسانيات وعلم الاقتصاد وعلم السياسة، بالإضافة إلى علوم الفلسفة والإعلام والتاريخ.وإن كانت هذه المقاربة الشمولية ترمي إلى التعرف على حقيقة المصطلح/الظاهرة إلا أن الحقيقة في هذا المجال تبقى نسبية كما هي في مجمل العلوم الإنسانية، وبالتالي ففي اعتقادنا أن الجهد البحثي المعرفي في هذا المجال يجب أن ينصب على البحث عن قاسم مشترك لمجمل التأويلات والتعريفات يهيئ لغة تخاطب متفق عليها تمكننا من قراءة واقع العولمة ونحن على هدى مما نقوم بدراسته.
ضبط مفهوم العولمة يتطلب أيضا تمييزه وفصله عن مفهومات أو مصطلحات قريبة منه أو متداخلة معه، كالحداثةModernization ، فبالرغم من أن العولمة نتاج الليبرالية الجديدة وهذه الأخيرة هي نتاج الحداثة و ما بعد الحداثة Post Modernity –وألما بعد لا يعني القطيعة بل تَمثُل الشيء وتجاوزه- ومع أن البعض تساءل عما إذا كانت "العولمة هي دين الحداثة أم نذير نهايتها" ،إلا أننا نعتقد أن صلة الحداثة بالعولمة هو أن كلاهما نعت لواقع مغاير عما سبقه، فعندما تم تداول تعبير الحديث modern أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين كان مرادفا لتعبير (الآن) ،والعولمة هي حداثة (الآن ) مع الأخذ بعين الاعتبار ما أضفي عليها من مستجدات. أيضا لا يمكن فصل العولمة عن ظاهرتين انبثقت عنهما وهما ظاهرة التدويل Internationalisation وظاهرة تعدد الجنسية Multinationalsation ، فالعولمة تجد جذورها في المساعي المتواصلة لوضع قواعد قانون دولي عام ومنظمات دولية تسمو على القوانين الوطنية وتعبر عما هو مشترك بين المجتمعات والدول ،وتعدد أو تعدي الجنسية تجلت في الشرطات متعددة الجنسية والرأي العام العالمي والحركات الاجتماعية والنقابية والأمميات –الاشتراكية والشيوعية- المفتوحة أمام أفراد وجماعات من جنسيات مختلفة. أيضا يجب التمييز بين العولمة المتوحشة كما ينعتها البعض وهي محل البحث هنا والعولمة كتطلع أنساني نحو التوحد وتوسيع مجالات المصالح المشتركة،أو ما بين العولمة والعولمة المضادة، عولمتهم وعولمتنا .
ربما أكثر حالات اللبس هو الذي يحدث ما بين العولمة والعالمية.فالفهم السائد لكلمة العالمية يعني الانتقال من العام المشترك إلى الخاص الوطني أو أسبقية العام على الخاص مع ترك الخيار للدول للدخول في العالمية أو أن تنأى بنفسها عنها،إلا أن المدقق في المجالات التي توصف بالعالمية سواء في القانون (القانون الدولي العام )أو بالاقتصاد (القانون الدولي الاقتصادي ثم اقتصاد السوق) أو في مجال حقوق الإنسان(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومجمل التشريعات الدولية بهذا الشأن) أو نظريات التنمية الشمولية /الإنسانية التي تتبناها الأمم المتحدة وتسعى لها دول الجنوب،إذا تمعنا بكل ذلك لوجدنا أن صفة العالمية لا تخفي حقيقة أن المنتج لهذه النظم والقوانين والتوجهات هو الغرب وهي تعبر عن ثقافته وتخدم مصالحه بالدرجة الأولى، فالدول الأوروبية المسيحية والولايات المتحدة هم الذين وضعوا أسس القانون الدولي العام بكل تشعيباته ثم أضفي عليه صفة العالمية وهم الذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أصبح له صفة العالمية، وهم الذين وضعوا أسس الديمقراطية والتنمية السياسية ثم أصبحت مطلبا عالميا وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ،وقد أشار سيرج لاتوش (Serge Latouche) إلى أن مصطلح النظام الدولي الذي ساد في العقود السابقة كان يعبر عن عالمية مركزها الحضارة الغربية وخصوصا الولايات المتحدة (والتي لا تعني إلا فرض الأنساق القيمية في إطار ما هو متعارف عليه بأنه أنماط الحياة Way of life ولا يمكن أن تفهم عناصر حقوق الإنسان ،الديمقراطية إلا باعتبارها تعبيرات تحاول أن تحقق تنميطا حضاريا عالميا). وهذا ما دفع ريجيس دوبريه للقول إن العالمية كانت مجرد أكذوبة أو وهم أو ستارا خادعا "لأن الناس محليون أولا، وينبغي أن يقام سبيل للذهاب والإياب بين المحلي والعالمي... ينبغي أن نفكر عالميا ولكن أن ننشط محليا على الدوام" . إلا أن ما يميز العالمية عن العولمة هو أن الأولى لم تكن تلغي الخصوصيات وحرية الاختيار بالضرورة، فحرية الاختيار كانت متاحة أكثر مما هو الحال مع العولمة.
ضبط المفهوم يمكننا أيضا من الحسم في مسالة حداثة الظاهرة التي يحيل إليها المصطلح أو قدمها، فإذا كان من الممكن أن نتحدث عن وجود إرهاصات للعولمة الاقتصادية كاقتصاد السوق والمؤسسات المالية العالمية وسيولة تنقل رؤوس الأموال، فإن العولمة الثقافية والسياسية بمفاهيمها المتداولة اليوم هي حديثة العهد نسبيا وترتبط بشكل كبير بتفاعلات الثورة المعلوماتية، حتى ذهب البعض إلى القول بأنه في عصر العولمة لم يعد السؤال مَن يتحكم بالوسائل المادية -من أراض وموارد طبيعية وحتى رؤوس أموال- بل من يتحكم بالوسائل اللامادية – تكنولوجيا متطورة وإعلام وبحث علمي ومعلومات- فالغزاة الجدد صانعو العولمة كما يقول بيترلاR.PETRELLA هم أشخاص معنويون أو طبيعيون يستطيعون من خلال امتلاكهم لإمكانات مالية ضخمة التحكم في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية،ويحددون القيم والرهانات والأولويات ويتحكمون في قواعد اللعبة.
ومن جهة أخرى لا بد من تبيان مفارقة يحتويها مصطلح العولمة، فإذا كان مفهوم العولمة هو تجاوز الحدود والخصوصيات، فأن مسيرة العولمة تزامنت مع تفجر حروب وصراعات دولية وأهلية، بل تصاحب مع مزيد من تشرذم العالم ثقافيا وأيديولوجيا. هذه المفارقة عكستها كتابات اثنين من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين الذين تصدوا لتحليل المتغيرات الدولية ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وهما، (فرانسيس فوكوياما) في كتابه نهاية التاريخ حيث أكد توجه النظام الدولي نحو نهاية الصراعات الإيديولوجية والثقافية وتوحد العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ضمن المنظومة الرأسمالية الغربية ،و(صمويل هنتنجتون) في مقالته صدام الحضارات حيث يختلف عن سابقه بالقول أنه مع إمكانية توحيد العولمة للدول في اقتصاد السوق إلا أن التوتر بل الصدام ما بين الدول سيستمر لأسباب ثقافية،فالنظم السياسية والاقتصادية قد تتغير وتتبدل ولكن لا يمكن للمجتمعات أن تتخلى عن ثقافتها وخصوصا ذات الثقافات العريقة.
تعدد التعريفات وتضاربها أحيانا يعود لحداثة معالجة ظاهرة العولمة مفاهيميا ولكون العولمة لم تستقر نهائيا كواقع مسلم به بقدر ما هي توجه أو إرادة لصيرورتها واقعا، فتنجح في مجالات وبلدان وتتعثر في مجالات وبلدان أخرى، أو على حد تعبير راينسمث "لقد وصلت العولمة إلى العالم، ولكنها لم تصل إلى معظم منظمات العالم" وهذا ما يجعل نعت العولمة بالشوملة يفتقر إلى الدقة ما دامت لم تشمل كل العالم. ومن هنا يرى البعض بأن العولمة قد حُدًدت حتى الآن بشكل غامض هذا إذا حددت على وجه العموم، أما لماذا يصعب تعريف وتحديد العولمة فهذا يعود كما يقول كل من Hirst,P.And Thompson, G."إلى غياب نموذج يشرح لنا كيف يمكن أن يكون عليه النموذج المعولم" . العولمة ضمن الواقع الدولي الراهن تتصاحب مع حالة من الشك وفقدان اليقين ليس فقط في الحاضر بل بالمستقبل أيضا، ومن هنا لا نستغرب حالة القلق التي تنتاب كثير من الشعوب ومن المفكرين من جنسيات مختلفة من هذا القادم الجديد ومن انفلات الأمور من يد البشر ومن التفكير العقلاني بشكل تدريجي، ليس فقط على مستوى تلوث البيئة – ثقب الأزون – أو انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التلاعب بالجينات البشرية أو تزامن العولمة مع انتشار الإرهاب، بل أيضا على مستوى القيم والأفكار وآليات التنشئة الاجتماعية والسياسية "إذ نرى عالما يسوده الاغتراب والاضطراب واللا يقين (عالم منفلت). ولعل ما يثير الجزع المعرفي والفكري والأخلاقي أن تقدم المعارف البشرية والقدرة على (التحكم المحكوم ) في المجتمع والطبيعة –وهي أمور كان يظن أنها ستخلق قدرا أكبر واكبر من اليقين- إذا بها تشكل أساسا عميقا لحالة العجز عن التنبؤ بالمستقبل " . صعوبة التعريف وحالة القلق لفظان ملطفان يعبران في الحقيقة عن حالة من الرفض للعولمة التي تسعى لتعميم النموذج الغربي وخصوصا الأمريكي، فالسياسة الخارجية الأمريكية سواء في العراق وفلسطين وأفغانستان ومواقفها المتعنتة المتعارضة مع توجهات غالبية دول العالم حتى الأوروبية في قضايا البيئة وحقوق الإنسان والتبادل التجاري، بالإضافة إلى الأزمات العميقة التي يعيشها المجتمع الأمريكي ... كل ذلك يولد خوفا وقلقا من العولمة ،وقلقا أشد من قيادة الولايات المتحدة لقاطرة العولمة.
التأريخ للعولمة
مسألة التأريخ للعولمة أمر يستحق النقاش ،فالجدل الدائر اليوم حول العولمة وخصوصا وجهة النظر المنتقدة للعولمة ،إنما تعالج العولمة المعاصرة المرتبطة بالنظام الرأسمالي أو التي هي نتاج له ، ووجهة النظر هذه ترى بأن العولمة ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أو هي نتاج نهاية القرن العشرين المتسمة بالهيمنة الأمريكية وبقيم الثقافة الغربية المسيحية، ومن هنا تبدو العولمة نتيجة مسببات راهنة،وتخدم الوضع الدولي القائم الآن. ولكن حتى ضمن هذه المقاربة فما نسميه اليوم بالعولمة هو نتاج لأفكار وترتيبات وأوضاع سابقة على العقد الأخير من القرن العشرين. لا شك بان هناك عوامل معاصرة سرعت من صيرورة العولمة وجعلتها أكثر حضورا و راهنية، إلا أن هذه العوامل كانت تفعل فعلها عبر الزمن داخل الدول وما بينها بتؤدة مع وجود ممانعات ولا شك،هذه الممانعات أخذت تتهاوى شيئا فشيئا.
يترتب على هذه المقاربة التي تحيل العولمة لمرجعية أوروبية أمريكية رأسمالية حديثة التشكل، أحكام قيمة سلبية مؤداها تغييب إسهامات الشعوب والحضارات الأخرى في الإبداعات الإنسانية الراهنة ، وإن كنا لا ننكر أن حضارة القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين ذات معالم غربية في غالبيتها ،إلا أن شعوب أخرى ساهمت فيها بطريقة مباشرة، كالصين واليابان ودول شرق أسيا بشكل عام، وبطريقة غير مباشرة من خلال سياسة النهب والاستغلال التي مارستها الدول الغربية على دول العالم الثالث، ثم الاستعمار غير المباشر أو النهب غير المباشر بما في ذلك الثروة النفطية التي خدمت الدول المتقدمة أكثر مما خدمت الشعوب المنتجة لها.
في مقابل هذه المقاربة التاريخية الاختزالية، هناك وجهة نظر أخرى تذهب إلى القول بتاريخية العولمة، فالعولمة الراهنة ما هي إلا صورة منقحة ومتطورة لعولمة تعود إلى بداية التاريخ ،من القائلين بذلك بول كيركبرايد الذي وضع أربع مراحل للعولمة وهي:1) العولمة قبل الحداثة-ما بين بداية التاريخ وعصر النهضة-2) العولمة في ظل الحداثة الجديدة-1500إلى 1800- 3)العولمة الحديثة- 1850إلى 1954-4)العولمة المعاصرة-1954وحتى الآن-. هذا التوجه يرى بان العولمة موجودة في جذور النظام الرأسمالي بل هي المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الرأسمالي،وحسب رأي جوناثان فريدمان(man J.Fried) ،فالبنى المعولمة ليست جديدة على النسق العالمي الراهن ،فالشركات التجارية الأوروبية التي انتشرت ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وما ارتبط بها من نظم تجارية في المحيط الهندي وجنوب شرق أسيا والإمبراطوريات الكبرى، (كلها كيانات معولمة قوية). ويدعم هذا الرأي رونالد روبرتسون الذي يضع خمس مراحل تاريخية للعولمة منطلقها بدايات القرن الخامس عشر ،وهذه المراحل هي: المرحلة الجنينية ،مرحلة النشوء ،مرحلة الانطلاق ،مرحلة الصراع من اجل الهيمنة ،وأخيرا مرحلة عدم اليقين.
هذه المقاربة التاريخية للعولمة بوجهتي النظر السابقتين لا تخلو من أنوية حضارية غربية حيث تقرن العولمة بالحضارة الغربية الحديثة التي بدأت مع عصر النهضة ،وهي ولا شك مقاربة صحيحة بمقدار ربط العولمة بالنظام الرأسمالي قيما وسلوكا ،إلا أن الوجه الأخر للعولمة ،إي العولمة كفكر وتطلع إنساني لتجاوز قيود الحدود السياسية والخصوصيات الثقافية الموهومة والتطلع نحو عالم يعترف بإنسانية الإنسان ككائن ينتمي إلى وطن عالمي وقانون عالمي ،تضرب بجذورها إلى ما قبل وجود الولايات المتحدة الأمريكية على الخريطة السياسية الدولية بل قبل وجود الرأسمالية كنظام اقتصادي والليبرالية كنظام سياسي. ويمكن القول أن الفلسفة الرواقية أول من بشر ودعا للعولمة دون أن تسميها عولمة وذلك من خلال مبدأين شكلا دعامة فكرها وهما :القانون الطبيعي ،قانون كل البشر الذي لا يفرق بين الناس على أساس الدين أو الموطن أو الخلفية الاجتماعية ،والمبدأ الثاني هو الدولة العالمية والمواطنة العالمية Cosmopolitanism أو( مدينة العالم( ،مبدأ هذه المدينة كما يقول زينون مؤسس هذه الفلسفة" يكمن في أن الناس يجب أن لا يتفرقوا في مدن وشعوب لكل منها قوانينها الخاصة،لأن كل الناس مواطنون،ولأن لهم حياة واحدة ونظاما واحدا للأشياء،كما هو حال القطيع الموحد في ظل قاعدة قانون مشترك". أيضا لا تخلو الديانة الإسلامية من شكل من العولمة ،فدعوة الإسلام للتوحيد وعدم تفريقه بين الناس على أساس العرق أو المكانة الاجتماعية ،وكونه رسالة لكل البشر في كل زمان ومكان ،وحيث انه عبادات ومعاملات تحدد للبشر المبادئ العامة لأسلوب حياتهم ،فهذا يعني أنه دعوة مبكرة للعولمة، وبالفعل تمكن الإسلام من ربط عديد من الشعوب ضمن نمط حياة وسلوك لفترة طويلة من الزمن. والعولمة متضمنة أيضا في الدعوات المبكرة في عصر التنوير في أوروبا لوضع قانون دولي عام أو قانون للأمم كما سماه جيرمي بنتام ،وفكرة تأسيس منظمات دولية لا تخلو من فكر معولم – كما سبقت الإشارة إلى ذلك-.
وعليه يمكن القول أنه بالرغم من حداثة تداول مصطلح العولمة ،حيث تكثف الحديث عنها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بداية التسعينيات ،إلا أن مؤشرات وجود العولمة، بمعنى سهولة انتقال السلع والأفكار عبر الحدود الوطنية وتراجع سيادة الدولة القومية،أمر سابق لهذا التاريخ ،فالعولمة الاقتصادية كانت تتغلغل في نسيج حياتنا مع الشركات متعددة الجنسية والتبعية الاقتصادية والمالية لمراكز رأس المال الغربي ،والعولمة الثقافية كانت تفعل فعلها في ثقافتنا من خلال الإيديولوجيات المستوردة ومن خلال الإعلام وخصوصا الفضائيات ومن خلال الثورة المعلوماتية.غالبية الدول العربية دخلت العولمة دون أن تدري من خلال تبعيتها للغرب وإلتحاقها بالمركز الرأسمالي العالمي. وهذا يعني أنه وجدت العولمة أو إرهاصاتها بداية ثم تواتر الحديث عن ضرورة التسليم بها والتعامل معها كأمر واقع ،ومن هنا مأتى الحرج عند معارضي العولمة ،حيث لم يستفيقوا لمخاطرها أو تحدياتها إلا بعد أن أصبحت بعض تجلياتها أمرا واقعا بدرجة ما وخصوصا في مجال الاقتصاد (العولمة الاقتصادية ) .
أيضا على الرغم من أن الحديث عن العولمة تزامن مع الحديث عن نهاية الايدولوجيا،إلا أن العولمة كفكر يتمأسس بشكل متدرج ،لا تخلو من أيديولوجيا ولو خفية،سواء من طرف مؤيديها أو من طرف معارضيها ،لأن العولمة تعبير عن مصالح وخيارات وإرادات ،فمؤيدوها يخفون حقيقة نواياهم بخطاب العلم والحداثة ومنطق التطور التاريخي، ومعارضوها يخفون الأسباب الحقيقية لمعارضتهم لها بالحديث عن الهوية والخصوصية الوطنية والمصلحة الوطنية ورفض الهيمنة والغزو الخارجي، وكل لا يخلو من ترسانة إعلامية وثقافية ومفاهيمية لتبرير وجهة نظره. مصطلح العولمة إذن حمال أوجه "حيث تتعدد وتتباين معانيها مع تباين مقاصد المتحدثين عنها والداعين إليها أو إلى مناهضتها. فهي حينا زعم بأن الكوكب قرية واحدة تهاوت فيها الحدود القومية مع إعلان وفاة أو نهاية الدولة-الأمة. والعولمة أيضا تدويل للحياة الاقتصادية والسياسية سقطت معه الحواجز الحمائية، وهي الحدود المفتوحة للشركات المتعدية القومية لدخول استثماراتها المالية ومنتجاتها،وتكريس للاستسلام لآليات السوق الحرة المتحررة من الضوابط والقوانين الاجتماعية . ويرى البعض الآخر العولمة في ضوء التحولات العلمية التقانية وتجلياتها من حيث حالة التماس والاتصال المباشر بين الناس أفرادا وجماعات على صعيد الكوكب".
ومع ذلك يجب التأكيد بان العولمة التي يراد لها أن تسود هي نتاج حضارة الغرب والصيغة الأكثر حداثة وفجاجة لهذه الحضارة والتي تجسدها الولايات المتحدة الأمريكية،إنها تجسيد وتكثيف المابعديات :ما بعد الرأسمالية وما بعد الامبريالية وما بعد الحداثة وما بعد الايدولوجيا وما بعد سيادة الدولة القومية ،إنها تجاوز-دون قطيعة- بشكل ما لإرث أوروبا العجوز ،أوروبا التي أصبحت تتعجب بتخوف مما تفعله الولايات المتحدة بهذا الإرث. لا يعني هذا إنها المرادف لنهاية التاريخ التي بشر بها فرنسيس فوكوياما،ولكنها قد تكون تحديا للتاريخ .وقد ذهب انطوني جيدنز إلى اعتبار التحولات التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة بما في ذلك العولمة، نتيجة أزمة اليسار وأزمة اليمين على حد سواء ،فالعولمة نعت لواقع مضطرب وغير مفهوم وبالتالي يسود تعريفها عدم الوضوح ،ومع ذلك فهو يتلمس أبعادها العميقة والخطيرة محذرا من ربطها فقط بالاقتصاد،أو بالنظام العالمي " تتعلق العولمة في حقيقتها بالتحول في الزمان والمكان ،ويمكن تحديد معناها بأنها العمل أو التأثير عن بعد، ولشيوعها علاقة بالكثافة المتزايدة في السنوات الأخيرة لوسائل الاتصال الفوري وحركة الانتقال الجماعية الواسعة على نطاق الكوكب... وتأثير العولمة مس أيضا أساليب الحياة المحلية بل والشخصية ... بل يمكن الحديث عن نشوء نظام اجتماعي جديد –ما بعد تقليدي ".