فحيث أن النظرية هي مجموعة من المصطلحات أو المفاهيم Concept والقضايا Propositions ،إذن يصبح المصطلح هو العامود الفقري للنظرية أو الوحدة الأساسية
فيها ،وعليه سنقوم بشرح أهم المصطلحات الرائجة في النظرية السياسية والتي لم يتم التطرق إليها في الفصول السابقة .
العدالة
من أقدم وأهم المفاهيم السياسية ،حتى بات العدل هو أساس الحكم الصالح وهدف أي نظام سياسي بغض النظر عن الأيديولوجية التي يتبناها -باستثناء الأنظمة العنصرية كالنازية والفاشية والصهيونية- ،وكل النظم السياسية تزعم بأنها تهدف لتحقيق العدل ،إلا أن الممارسة كثير ما تشي بعكس ذلك0 كلمة عدالة ترادف في اللغة الإنجليزية كلمة Justice وهي اشتقاق من الكلمة اللالتينية Jus بمعنى "حق" أو "قانون" Law . والعدالة هي إحدى الفضائل الأربع الكبرى التي سلم بها الفلاسفة في العصور القديمة. وهذه الفضائل هي الحكمة والشجاعة والاعتدال والعدالة.
يعتبر كل من أفلاطون وأرسطو أول من نظر لمفهوم العدالة. ولقد جاء تحليل أفلاطون لمفهوم العدالة رداً على قول السفسطائيين وعلى لسان ثراسيماخوس بأن العدالة هي مصلحة الأقوى . فلقد دحض أفلاطون مقولتهم هذه ورفضها تماماً في "الجمهورية" مؤكداً أنه لا يجب ولا يجوز أن يكون هناك توازن بين الحق من جانب والقوة من جانب آخر. فالقوة، في رأيه، لا تبرر الحقوق ولا تفرضها، وفي رأيه أن العدالة هي أن يحصل كل فرد على ما هو حق له بمعنى أن يعرف كل فرد وأن يؤدي ما هو مؤهل له بالطبيعة وألا يتدخل فيما هو حق للآخرين،إلا أن هذا التحليل الأفلاطوني يؤسس على ألا مساواة حيث ان أفلاطون يعتبر أن الله خلق الناس غير متساويين ،وبالتالي فالعدالة التي يرومها لا تعني المساواة بين الناس .
أما أرسطو فلقد اعتبر العدالة القضية المحورية للفكر السياسي كله. ولقد عرفها بأنها حد وسط بين الظلم المتمثل في الاعتداء على ما يخص الآخرين والظلم المتمثل في اعتداء الآخرين على ما يخصك. ولقد ميز أرسطو بين ما أسماء عدالة التوزيع (Distributive justice) وترجع إلى الدولة حيث تعمل على ضمان حصول كل فرد على نصيب عادل من موارد الدولة، وعدالة التعويض (Retributive Justice) وترجع إلى القضاء حيث يعمل على تعويض المظلوم من الظالم.
ولقد أثر هذا التقسيم الأرسطي لمفهوم العدالة في الفكر السياسي حتى يومنا هذا، وإن كان المفكرون المعاصرون لا ينظرون إلى العدالة التوزيعية و العدالة التعويضية بوصفهما نوعين من أنواع العدالة بل بوصفهما تطبيقين لنفس المفهوم. وعادة ما يبرز التركيز على مفهوم العدالة التعويضية عند الحديث عن القانون وعلاقته بالعدالة، في حين تعظم الإشارة إلى مفهوم عدالة التوزيع عند الحديث عن العدالة الاجتماعية (Social Justice).
فإذا أخذنا فكرة عدالة التعويض أولاً وجدنا أنها كانت الفكرة المسيطرة على الفكر السياسي الخاص بمفهوم العدالة وحتى الثورة الصناعية. والعدالة، وفقاً لهذا الاتجاه، هي احترام المبادئ والقواعد والحقوق. فهذا الاتجاه يعتبر أن العدالة هي الفضيلة التي تحمي النظام الاجتماعي القائم حيث لكل فرد مركزه ووضعه القانوني المحدد. أما فيما يتعلق بالجانب العقلي لمفهم العدالة التعويضية فقد أكد أنصار هذا المفهوم أنه لا بد من توافر ثلاثة شروط حتى يمكن أن نتكلم عن عدالة العقاب. الشرط الأول هو أن العقاب لا بد أن يقع على هؤلاء الذين أثبتت الإجراءات القانونية أنهم مذنبون دون النظر لاعتبارات العفو أو الرحمة أو تخفيف العقاب. الثاني أن العقوبات لا بد أن تختلف باختلاف الجرائم. والثالث أنه لا بد أن يتناسب العقاب مع الجريمة.
أما عدالة التوزيع فقد بدأت تظهر شيئاً فشيئاً كمناقشات تذكر بمفهوم أرسطو عنها،وهو الأمر الذي مهد لظهور مفهوم العدالة الاجتماعية وتسيده للفكر السياسي في العصر الحديث خاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر. ويرتكز مفهوم العدالة الاجتماعية على افتراضيين أساسيين: الأول هو أن العمليات الاجتماعية تخضع لقوانين بشرية يمكن صياغتها وبالتالي فإنه يمكن عن طريقة إعادة صياغة تلك القوانين إعادة تشكيل المجتمع، والثاني أن الحكومات كمصدر قوة وصاحبة سلطة يمكنها أن تنفذ إعادة تشكيل المجتمع هذا. والمفكرون السياسيون الذين يتحدثون عن العدالة الاجتماعية ينقسمون إلى فريقين. الفريق الأول يناقش مفهوم العدالة الاجتماعية من جهة الاستحقاق (Desert) والتقدير (Merit). أما الفريق الآخر فيناقشها من جهة الحاجة (Need) والمساواة (Equality).
أما العدالة الاجتماعية من جهة الاستحقاق والتقدير فتعني أن المركز الاجتماعي والدخل المادي لكل فرد لا بد أن يكون متناسباً، بقدر الإمكان، مع مهاراته وكفاءته، ولقد ظهر هذا المفهوم أساساً ليجابه مفاهيم مثل الامتياز بالوراثة ولينادي بمجتمع مفتوح، الفرص فيه متساوية للجميع حتى يبرز من يتساهل الصعود والتألق اعتماداً على قدراته الذاتية. ولكن ثارت مشكلات عدة تتعلق بمفهوم الاستحقاق وكيف يمكن تحديد التقدير عملياً حيث أكد بعض المفكرين أن القول بأن قيمة الفرد تحددها مهاراته وقدراته قول غير منطقي، لأن هذه القيمة لا بد أن يحددها ما يبذله من مجهود فعلي. ويقف وراء هذه المناقشات الاتجاهان: الليبرالي من جانب والاشتراكي من جانب آخر.
ففي حين أن الفلسفة الليبرالية تؤكد أن السوق الحرة هي معيار تحديد قيمة الفرد وما يستأهله حيث يعرض كل فرد قدراته فتحدد قيمته وفقاً للعرض والطلب المفتوح. إلا أن المفكرين الاشتراكيين ينتقدون هذا الاتجاه الليبرالي مؤكدين أن السوق يتأثر بعوامل غير العرض والطلب مثل الحظ والبيئة الاجتماعية للعارض وغيرها من العوامل التي ليس لها أي علاقة بمهارات العارض وكفاءته فاقترحوا بالتالي أن تحدد قيمة ما يستأهله الفرد بوسائل مباشرة تقوم عليها الدولة مثل نظام تحديد الأجور في ظل اقتصاد موجه حيث تتولى الدولة مهمة التوزيع بين الأفراد حسب كفاياته ووفقاً للمصلحة العامة.
أما العدالة الاجتماعية من جهة الحاجة والمساواة فتؤكد أن العدالة لا تتحقق إلا بإعادة توزيع الموارد وفقاً لمدى حاجة الأفراد إليها. ويؤكد أنصار مفهوم العدالة هذا إلى أنه يؤدي إلى سيادة مفهوم المساواة حيث إن إشباع حاجات الأفراد بتنويعاتها المختلفة تجعلهم متساوين بمعنى من المعاني. ولكن الصعوبة الأساسية التي تواجه أنصار هذا المفهوم تكمن في تحديد معنى الحاجة. فهل الحاجة هي الرغبة والتفضيل، بمعنى أن كل من يرغب أو يفضل الحصول على شيء يكون بالفعل في حاجة إليه؟ وينبع من هذه الصعوبة صعوبة أخرى هي كيف يمكن تحديد ماهية الحاجة مع الاختلاف الشديد في حاجات الأفراد وفقاً للأنماط الحياتية المختلفة. وفي مواجهة هذه الصعوبات تبلور اتجاهان فكريان رئيسيان الأول هو الاتجاه الشيوعي الذي يرى أن كل فرد أقدر على تحديد حاجاته وأن على الدولة أن توفر بالفعل الموارد اللازمة لإشباع كل الحاجات بغض النظر عن مدى تباينها، ثم هناك الاتجاه الديمقراطي الاشتراكي الذي يرى أن السلطة العامة في الدولة لا بد أن تكون هي المناطة بتحديد حاجات الأفراد وفقاً للمستويات المعيشية السائدة في المجتمع.
أما أنصار النظرية النفعية فيرفضون مفهوم العدالة الاجتماعية القائم على توزيع الموارد وفقاً للحاجة، كما أنهم يرفضون التوزيع القائم وفقاً للاستحقاق ويؤكدون أن توزيع الموارد في المجتمع يكون عادلاً بالنظر إلى النتائج التي يحققها فإذا ترتب على توزيع ما تحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأفراد فهو توزيع عادل بغض النظر عن المبدأ الذي اتبعه.
وربما بسبب هذه الصعوبات التي يثيرها مفهوم العدالة الاجتماعية المستند إلى مفهوم العدالة التوزيعية ظهر اتجاه حديث يرفض أصحابه التمسك بأفكار العدالة الاجتماعية ويطالبون بالعودة إلى المفهوم التقليدي للعدالة بمعنى احترام القانون والحقوق التي يحميها.
العدل (في المفهوم الإسلامي):
العدل – في المصطلح الإسلامي، هو الضد والمقابل للجور والظلم.. لا بالمعنى السلبي، فقط، أي نفي الجور والظلم وغيبتهما.. وإنما بالمعنى الإيجابي، المتمثل في سيادة "الوسطية الإسلامية الجامعة"، التي لا تنحاز إلى قطب واحد من قطبي الظاهرة، وكذلك لا تنعزل عنهما معاً ولا تغايرهما كل المغايرة، وإنما تجمع عناصر العدل والحق فيهما، مكونة الموقف العادل بين ظلمين، الحق بين باطلين، المعتدل بين تطرفين… فالعدل: هو التوسط.. والوسطية الجامعة لعناصر الحق من أقطاب الظواهر موضوع الدرس ومحل النزاع..
وهذا المعنى –للعدل- في المصطلح الإسلامي – هو الذي يشير إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول "الوسط: العدل.. جعلناكم أمة وسطاً" – رواه الترمذي والإمام أحمد..
والعدل – في شرعة الإسلام – فريضة واجبة، وضرورة من الضرورات الاجتماعية والإنسانية، وليس مجرد "حق" من الحقوق، التي لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد ذلك، أو أن يفرط فيها، بالإهمال، دون وزر وتأثيم..
إنه فريضة واجبة، فرضها الله، سبحانه وتعالى، على الكافة دون استثناء – بل لقد فرضها على ذاته، سبحانه، بالمعنى اللائق بذاته، حتى لقد جعلها اسماً من أسمائه الحسنى..
فرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بها.. "فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم.." (الشورى: 15)..
وفرضها على أولياء الأمور، من الولاة والحكام، تجاه الرعية والمتحاكمين.. "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظم به، إن الله كان سميعاً بصيراً" (النساء: 58).
بل لقد أنبأن الله، سبحانه وتعالى، أن هذه "الأمانة" التي فرض على الإنسان حملها وأداءها، كانت هي المعيار الذي تميز به الإنسان، وامتاز عن غيره من المخلوقات غير المختارة.. "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا" (الأحزاب: 72).. ومن المفسرين من قالوا : إنها أمانات الأموال والعدل بين الناس فيها..
وفرضها، معياراً، للعلاقة بين الرعية وبين أولى الأمر –الدولة والسلطان- يشير إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يحدث الولاة عن تكافؤ "العقد" بينهم وبين رعيتهم، محذراً الذي يحث الولاة عن تكافؤ "العقد" بينهم وبين رعيتهم، محذراً إياهم من التفريط فيما عليهم تجاه الرعية، في سياق حديثه إلى الرعية عن علاقتهم بالولاة والأئمة: "إن لهم – (الأئمة) – عليكم حقاً، ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.." –رواه الإمام أحمد..
وهو – العدل – فريضة في مجتمع الأسرة – الذي هو لبنة بناء مجتمع الأمة.. يشير إليها حديث رسول الله ، الذي يقول فيه :"اعدلوا بين أبنائكم" رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والإمام أحمد.. وتعنيه الآية القرآنية التي تقرر ما للمرأة وما عليها "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (البقرة) .. وتلك التي تعلق التعدد في الزوجات على تحقق العدالة بينهن "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.." (النساء: ).
إنها فريضة شاملة لكل ميادين الحياة.. عدل الولاة في الرعية.. وعدل القضاة في المتحاكمين.. وعدل الإنسان في أهل بيته.. ولهذا الشمول كانت إشارة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه :"المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" – رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد.
ويستوي، في وجوب العدل أن يكون الغير أو حيال النفس.. بل إن تحريم الإسلام ظلم الإنسان لنفسه لمن أكبر الأدلة على أن العدل ضرورة وفريضة، وليس مجرد "حق" من الحقوق .. وإلا لجاز للإنسان أن يتنازل عن "حقه" فيه فيظلم نفسه.."إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيه كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً" (النساء: - ).
وحتى هؤلاء المستضعفين، فرض الله على القادرين الجهاد لتحريرهم من الاستضعاف.. "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذي يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً". (النساء.
وتؤكد هذا المعنى – تأثيم ظلم الإنسان لنفسه – الآية الكريمة "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فقالوا السلم ما كنا نعمل من سوء، بلى إن الله عليهم بما كنتم تعلمون، فادخلوا أبواب جهنهم خالدين فيها فلبئس مئوى المتكبرين" (النحل.
وإذا كان العدل فريضة واجبة، وضرورة اجتماعية للإنسان، وعليه تجاه نفسه.. وتجاه الآخرين.. موالين ومحبوبين كان هؤلاء الآخرون أم معادين مكروهين.. فإنه كذلك، فريضة وضرورة، في مختلف الميادين.. في القانون وإمامه.. وفي الشؤون الأدبية والمعنوية.. وفي أمور المال والثورة والاقتصاد والمعاش – أي التكافل الاجتماعي – (أنظر مادة "التكافل").
ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن علاقة التنافي بين "العدل" و "الجور".. فوجود الواحد منهما، يعني نفي الآخر وانتقاءه.. فقال:"لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره؟.. ثم يأتي الله، تبارك وتعالى، بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف" – رواه الإمام أحمد..
فهو – العدل – واحد من فرائض الله.. وواحد من قوانينه وسننه في الاجتماع الإنساني.. له معالمه.. وله آلياته في الحضور وفي الغياب.