((الاختلاط في المستشفيات سبيل الخلوة المحرمة))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين، أما بعد:
فقد كثر الكلام في هذه الأيام عن الاختلاط بين الجنسين. وعلى الرغم من أن علماءنا الأجلاء رحم الله ميتهم وأمد في عمر حيّهم على عافية وحسن عمل –وهم أهل التخصص لمن يدعو إلى احترام التخصص!- بينوا حكمه بالأدلة الشرعية الواضحة الصريحة، إلا أن فئاما من الناس ما زالت تسعى لفرضه على هذا المجتمع المتدين فرضا في الدوائر الحكومية والغرف التجارية وقاعات الدراسة وغيرها. وزادوا في التلبيس بزعمهم أن النصوص الواردة في التحريم هي في الخلوة فحسب، وأما الاختلاط فمباح لا غضاضة فيه –زعموا-. وما هذا الاشتداد في الطرح إلا لحاجة في أنفسهم لا بلغهم الله إياها. ومما آلم الغيورين ركوب مجموعة ممن ينسبون للعلم والدعوة -هداهم الله- موجة إباحة الاختلاط والتهوين من أمره، وكان المأمول منهم أن يقفوا سدا منيعا ضد من يريد شرا بهذه البلاد وأهلها، والله المستعان.
ومما يذكره هؤلاء كدليل على تسويغ الاختلاط وقوعه في المستشفيات. ولي مع هذا الاستدلال وقفات:
1) لا يشك عاقل (ذو فطرة سوية) أن الله خلق الذكر والأنثى وفطر في كل منهما الميل للجنس الآخر. وهذا من حكمة الله عز وجل ليستمر تناسل البشر إلى قيام الساعة. ولئلا تنحرف الفطرة إلى الرذائل شرع الله ما يصونها ويحوطها؛ فحرم الله سبحانه الزنا وكل طريق يؤدي إليه كإطلاق البصر والخلوة المحرمة والاختلاط بين الجنسين. ومن تأمل حال البلاد التي تأصّل فيها الاختلاط -العربي منها والغربي- أيقن (بفطرته السويّة) حرمة الاختلاط بين الجنسين.
2) ما الدليل الشرعي الذي يستثني الاختلاط في المستشفيات من التحريم؟ وهل اعتياد الناس منكرًا ما ردحا من الزمن يجيزه؟!
" ... وذلك أن الرجال والنساء الذين يرتادون المستشفى للعلاج ينبغي أن يكون لكل منهم قسم خاص من المستشفى ؛ فقسم الرجال لا يقربه النساء بحال ، ومثله قسم النساء ؛ حتى تؤمن المفسدة ، وتسير مستشفيات البلاد على وضع سليم من كل شبهة موافقاً لبيئة البلاد ودينها وطبائع أهلها ، وهذا لا يكلف شيئاً ولا يوجب التزامات مالية أكثر مما كان ، فإن الإدارة واحدة والتكاليف واحدة ، مع أن ذلك متعين شرعاًَ مهما كلف " .
انتهى كلام الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله
( مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 13/ 221)
3) روى أبو داود في "سننه" عن أبي أسيد الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق -أي ليس لكن أن تسرن وسطها- عليكن بحافات الطريق" فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . فإذا كان هذا النهي من النبي صلى الله عليه وسلم في خير القرون ولخير الناس بعد الأنبياء وأطهرهم قلوبا، فكيف بمن بعدهم؟! ولا شك أن الاختلاط في المستشفيات أشد من الاختلاط في الطريق.
4) الممازحة والمضاحكة بين الجنسين دون شعور بأي حرج، والحجة (زملاء مهنة)! وهذا أمر يشهد به كل من زار المستشفيات فضلا عمن عمل فيها. بل أشد من هذا النظر باستغراب لمن يتجنب المضاحكة والممازحة مع الجنس الآخر مراعيا حدود الله، وأنه متشدد لأنه خالف الأصل!!
5) لا يجوز بحال أن يكون الكلام عن سمو مهنة الطب –وهي سامية بلا شك- سببا لافتراض (ملائكية) العاملين في المجال الطبي، فهم بشر كغيرهم يتنازعهم ما يتنازع سائر البشر. وهذا من الظلم لهم وتحميلهم ما لا يحتملون.
6) الاختلاط مدعاة لتبرج بعض النساء، فالمرأة يغريها الثناء ونظرات الإعجاب "والغواني يغرهن الثناء". وإلا فما الداعي للتبرج والزينة وجلّ من يعمل في المستشفى من الرجال؟!
7) من أعظم مفاسد الاختلاط في المستشفيات –ويقاس عليه كل جهة يكون الاختلاط متأصّلا فيها- هو الوقوع في الخلوة المحرمة التي يصر بعضهم على أنها المحرمة دون الاختلاط. وإليكم بعض الأمثلة، ولم أستقصِ:
أ. يحصل أن يُغلَق باب العيادة على الطبيب والممرضة معه، وذلك بعد خروج المريض الأول وقبل دخول الذي يليه. حيث يقوم الطبيب بمراجعة الملف والاطلاع على ما أجري من فحوصات ثم يقوم باستدعاء المريض التالي.
ب. كثير من لجان امتحانات الطلبة تكون –للأسف- من استشاري واستشارية ويجلسان في غرفة لمناقشة الطالب. وما بين امتحان طالب وآخر يُغلَق الباب عليهما برهة من الزمن لمناقشة درجات الطالب ورصدها قبل دخول الذي يليه.
ج. يحتاج بعض المرضى إلى بعض الحقن سواء كانت عارضة، أو دورية كما في بعض الأمراض. فيُغلَق الباب على المريض والممرضة وليس معهما أحدا. ومما يزيد الطين بِلّة أن بعض الحقن تعطى في الورك والمتعين شرعا أن يتولى ذلك ممرض إن كان المريض رجلا.
د. قد تحتاج العاملة في المجال الطبي إلى مناقشة الرئيس أو المدير في أمور تقتضي حساسيتها ألا يطّلع على موضوعها أحد، كمشكلة لها مع أحد زملاء المهنة -كما يقال- أو مناقشة أمر ما. حينها لن يكون أمامهما إلا الانفراد في غرفة لاستعراض الأوراق والوثائق والتي لا يمكن استعراضها عن طريق الهاتف بطبيعة الحال.
ما سبق ذكره من بعض صور الخلوة المحرمة والتي لم يكن لها أن تقع لولا الاختلاط تحتّم على من كان صادقا في النصح للمسلمين وولاة أمرهم أن يحرم الاختلاط سدًّا للذريعة، لو سلمنا جدلا (ببدعية الاختلاط) وأنه مصطلح حادث!!
وفي الختام أوجه ثلاث رسائل من قلب محب "يرى خلل الرماد وميض نار، فيوشك أن يكون لها ضرام" :
الرسالة الأولى إلى علماء الشريعة وحراس الفضيلة وحماة الأعراض سدّدهم الله:
اثبتوا على ما أنتم عليه واصدعوا بحرمة الاختلاط بين الجنسين، ولا يهولنّكم شغب المشغّبين فإنهم إنما يتقوون بالشيطان. وقد قال الله جل في علاه: {إن كيد الشيطان كان ضيعفا} (النساء، 76) ومن تقوّى بضعيف فهو أضعف منه. ولكم تسلية في قول الله عز وجل: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (الأنفال، 30) وفي قوله: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف 21)
الرسالة الثانية إلى كل من انتسب للعلم الشرعي وشنّع على علماء الشريعة تحريمهم الاختلاط، بل وألصق بهم التهم جزافا:
اتق الله في أعراض المسلمين، وإني سائلك بالله فأجب: أترضى لنسائك أن يخالطن الرجال في العمل (في جو من الحشمة وعدم التبرج ودون خلوة محرمة)؟! أترضى لابنتك أن تدرس في جامعة مختلطة تجلس مع زملاء الدراسة جنبا إلى جنب؟!
شيخنا الفاضل، اتق الله واحذر أن تكون عونا لِـ "زوّار السفارات" على هذه البلاد الطيبة المباركة. والله الله أن تؤتى أعراض المسلمين من قِبَلِك واعلم أنك موقوف بين يدي الجبار جل جلاله، فما أنت قائل له؟؟
الرسالة الثالثة إلى من تبوؤوا منابر الإعلام في بلادنا:
اتقوا الله في أعراض المسلمين واعلموا أن الإنسان لا يتحمل ذنوبه فكيف بذنوب الأجيال بعده. "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا".
ولكم –ولكل من يغتر بكلامكم في دعواكم المطالبة بحقوق المرأة- في رائد تغرير المرأة قاسم أمين عبرة حيث كتب في جريدة الظاهر في أكتوبر 1906: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف ما جعلني أحمد الله ما خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي … رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة, وما وجدت زحاماً فمرت به امرأة إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن...."إلى آخر ما قاله.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا راشدا تعز فيه وليَّك ، وتذل فيه عدوَّك ، ويُعمل فيه بطاعتك
وصلى الله على نبينا محمد القائل: "إياكم والدخول على النساء" وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا