▒◄ إنه الحج ... المؤتمر الذي لا مثيل له ►▒
الحمد الله والصلاة والسلام على نبي الله .. وبعد ..
الحجُّ مؤتمرٌ جامعٌ للمسلمين قاطبةً ، هو ملتقاهم ومؤتمرهم الأكبر ، الحج مؤتمرٌ يجد المسلم فيه أصلَه العريق الضاربَ في أعماقِ الزمن منذُ إمامِ الحنَفِيَّة أبينا إبراهيم عليه السلام ، مؤتمر للمسلمين يجدون فيه محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعاً فهذه القبلةِ التي يتوجَّهون إليها جميعاً ، ويلتقون عليها جميعاً ، وهذه رايتهم التي يفِيؤُون إليها ، رايةَ العقيدةِ الواحدة ، التي تتوارى في ظلّها فوارقُ الأجناس والألوان والأوطان ، نعم.. الحج فرصة للمسلمين ليوجدوا فيه قوتَهم والتي قد ينسونَها حيناً ، ويتناسونها أحينا ، قوة التجمع والتوحّدِ ، والتي تضمُّ الملايين التي لا يقف لها حدٌّ ، ونحن اليوم بين ساحات الفتن تتقاذفُنا من كل جانب ، وتتحدّانا قوى الطغيان والعدوان من كل مكان ، واجبُ علينا أن نتخذ من مثلِ هذا الموسمِ مؤتمراً للتعارف والتشاور وتنسيقِ الخطط وتوحيدِ القوى وتبادُلِ المنافع والمعارفِ والتجارب ، فلا يجد العالَمُ كلُّه مهما حاولت جهوده وتنسّقت ، ومهما بلغت خِطَطُه وتنوّعت موسماً كالحج منظِّماً لعالمٍ إسلاميٍ واحدٍ كاملٍ متكاملٍ مرّة في كل عام ، في ظل الله ، بالقرب من بيت الله ، و!
في ظلال الطاعات القريبة والبعيدة ، والذِكرَياتِ الغائبة والحاضرة ، في أنسب مكان وأنسب جوّ وأنسب زمان .. أيها المبارك ..
إن هذا الحج الذي تراه بأم عينيك ويقبل عليك في كل عام مرة ، هو مؤتمرٌ ذو مقاصد سامية ، ليس لك وحدك ، بل للبشرية كلِها ، مؤتمرٌ يربّي البشريةَ على أُسُسِ السلام والأمن والحياة الطيبة ، ويدعوهم لتحريمِ الحُرمات والممتلكاتِ والنفوسِ والمقدَّرات ، فربّنا جل وعلا يقول {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } حقا .. إنه مؤتمرُ يغرس في النفوس الحياةُ التي تُرعى فيها حرمات الله ، لتقوم في الأرض ، حياةٌ يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء ، حياةٌ يجدون فيها مثابةَ أمنٍ ودوحةَ سلام ومِنطقةَ اطمئنان " إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا "
أخي الكريم ..
لقد شرع الله جل وعلا العباداتِ لحكمٍ عظيمةٍ ومقاصدَ سامية وأسرارٍ كثيرة ، منها ما يعرفه الخلقُ ومنها ما لم يدركوه ، وإن من تلك المنظومةِ فريضةَ الحجّ ، تلك الفريضةُ التي عظُمت في مناسكها ، وجلّت في مظاهرها ، وسمت في ثمارها ، عظيمةُ المنافع ، جمّةُ الآثار ، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المُحْصُون ، ولا يَقْدِر على عدّهِ العادّون ، انتظمت من المقاصد أسماها ، ومن الحِكَم أعلاها ، ومن المنافعِ أعظمَها وأزكاها ، مقاصدُ تدورُ محاورها على تصحيحِ الاعتقاد والتعبّد ، وعلى الدعوةِ لانتظام شملِ المسلمين ووَحْدة كلمتهم ، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع ، والتزكيةِ السلوكيَّةِ للنفوس والقلوب والأرواحِ والأبدان ، وبالجملة ففي الحجِ من المنافعِ التي لا تتناهى والمصالحِ التي لا تُجارَى ، ما شملَه عمومُ قول المولى جل وعلا {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } قال ابنُ عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية " منافع الدنيا والآخرة ، أما منافع الآخرة فرضوانُ الله جل وعلا ، وأما منافعُ الدنيا فما يصيبون من منافعِ البدن والذبائح والتجارات " وثمةُ منافعُ يجب على الأمة الإسلاميةِ أفراداً ومجتمعاتٍ حكاماً ومحكومين أن يعُوها وأن يُدركوا كُنهَها ، وأن يحقِّقوها في حياتهم سلوكاً عملياً ومثالاً واقعياً ، فيومَ تكونُ الأمةُ مستلهمَةً رُشدَها على نَحْوِ تلك الأهداف والمقاصد فستنال عزاً وشرفاً وخيراً ومجداً ، فما أحوجَ الأمةَ اليومَ وهم يعانون فِتناً متلاطمةً ، وشروراً متنوّعة ، وبلاياً متعددة ، ما أحوجهم أن يستلهموا من فرائضِ الإسلام العِبَرَ والعظاتِ ، والدروسَ الموجّهات ، لحياتهم وسلوكهم ونشاطهم وتوجّهاتهم ، ما أجدرَ المسلمين أن يوجِّهوا حياتهَم من منطلقاتِ دينهم ، وأن يديروا شؤونَهم من حقائقِ قرآنِهم ، وأن يعالجوا مشكلاتِهم وأدواءَهم على ضوءِ ما يوجّههم إليه خالقُهم ، ويرشدُهم إليه نبيهم ، وإلى أولى الدروس ..
1. أن الحج تذكيرُ للأمةِ بأن أعظمَ ما يجبُ أن تهتمّ به وأن تحافظَ عليه وأن تغرسَه في النفوس وتبثَّه في المناشطِ كلّها والأعمالِ جميعها تحقيقُ التوحيد لله سبحانه ، تحقيقُ الغايةِ القصوى في الخضوع والتذلل له عز شأنه توجّهاً وإرادة ، قصداً وعملاً ، فهذه التلبية رمزُ الحجِ ومفتاحه التي أهلَّ بها سيّد الخلق وإمامُ الأنبياء حين افتتح حجتَه بالتوحيد كما يقول جابر : فأهلّ بالتوحيد " لبيك اللهمّ لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " إهلالٌ يتضمن كلماتِ التلبية ، بتوحيدُ الله جل وعلا ونبذ الإشراك به بكلّ صوره وشتى أشكاله ، لا يُسأل إلا اللهَ ، لا يُستغاث إلا بالله ، لا يُتوكَّل إلا على الله ، ولا يُطلبُ المددَ والعون والنصرَ إلا من الله ، مستيقناً أنَّ الخير كلَّه بيد الله ، وأزِمَّةَ الأمور بيده ، ومرجِعَها إليه ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع .
2. الحجِّ فرصة سانحة بأن تعلمَ الأمةُ وتتذكَّر ، وأن تستشعرَ وتستيقن أنه لا سعادةَ ولا نجاح في هذه الحياة والآخرة ، ولا توفيقَ ولا سدادَ إلا باتباع النبي والسيرِ على نهجه ، والمسيرةِ الجادة على هديه ، في الاعتقاد والأعمال ، في الحكم والتَّحاكم ، في الأخلاق والسلوك ، كيف لا وهو القائل في كل منْسَك من مناسك الحج " خذوا عني مناسكَكَم " ورحم الله بن عباس رضي الله عنهما يوم قال " حجّوا كما حجَّ النبي ولا تقولوا : هذا سنَّةٌ وهذا فرض " .
3. ومن الدروس العظيمة في الحجّ : أهميةُ الاعتدالِ والتوسّط في الأمور كلِّها ، ومجانبةُ الغلوِّ والجفاء أو الإفراط والتفريط ، روى أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله غداةَ العقبة " القُط لي حصًى" قال : فلقطتُ له حصىً من حصى الخذْف ، فجعل ينفضهنّ في كفّه ويقول " بأمثال هؤلاء فارموا " ثم قال " يا أيها الناس ، إياكم والغلوّ في الدين ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين " فالاعتدال في الأمور كلِّها ، والتوسطُ فيها والبعدُ عن الغلو والجفاء ، فهو المنهج القويم والصراطُ المستقيم ، الذي ينبغي أن يسلُكَه جميعُ المؤمنين ، وذلك ليس بالأهواء .. رزقني الله وإياك العلم النافع والعمل الصالح .. وتقبل الله منا ومنك صالح القول والعمل .. إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..