أولا: إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل، بل الاصل الاعتقادي عند أهل السنة والجماعة هو الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة، وذها مبسوط في عامة كتب أهل السنة في العقيدة، كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة لابن ابي عاصم، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني، والإبانة لابن بطة، والطحاوية، وغيرها .
ويتأكد هذا الإمساك عند من يخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة، وذلك بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك مثله، لصغر سنه أو لحداثة عهده بالدين . . . لحقيقة ما حصل بين الصحابة، واختلاف اجتهادهم في ذلك، فيقع في الفتنة بانتقاصه للصحابة من حيث لا يعلم .
وهذا مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف، وهي إلا يعرض على الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم .
قال الإمام البخاري رحمه الله : " باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا " .
وقال علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله " .
وقال الحافظ في الفتح تعليقا على ذلك : " وفيه دليل على ان المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة . ومثله قول ابن مسعود : " ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " . ( رواه مسلم ) .
وممن كره التحدث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرئب . .
إلى أن قال : وضابط ذلك ان يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراده ، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم ". ( صحيح البخاري 1 / 41 ، الفتح 1 / 199 -200 ، وراجع ايضا كلاما جيدا للسلمي في كتابةالتاريخ 228 ) .
ثانيا: إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم، فلابد من التحقيق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. وهذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق، لكيلا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا .
فوجوب التثبت والتحقيق فيما نقل عن الصحابة، وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصا ونحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف، أما من جهة اصل الرواية أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن .
وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل ابي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما . ( منهاج السنة 5 / 72، وانظر دراسة نقدية مرويات ابي مخنف في تاريخ الطبري / عصر الراشدين، ليحيى اليحيى ) .
من أجل ذلك لا يجوز ان يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف، وبعضها يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن تيقنا ما ثبت في فضائلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا علم بطلانها . ( منهاج السنة 6 / 305 ) .
ثالثا: إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل، وكان ظاهرها القدح، فليلتمس لها أحسن المخارج والمحاذير .
قال ابن أبي زيد : " والإمساك عما شجر بينهم، وأنّهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب " . ( مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وانظر تنويرا لمقالة حل إلفاظ الرسالة للتتائي ) .
وقال ابن دقيق العيد : " وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحا أولناه تأويلا حسنا، لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل الملحق المعلوم " . ( أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم لعبد العزيز العجلان ص360 ) .
هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم .
رابعا: أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم، وثبت في ميزان النقد العلمي، فهم فيه مجتهدون، وذلك ان القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة اقسام :
القسم الأول: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه، فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده .
القسم الثاني: عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد إن الحق مع الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه .
القسم الثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح احد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لإنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك . ( مسلم بشرح النووي 15 / 149، 18 / 11، وراجع الإصابة 2 / 501، فتح الباري 13 / 34 ) .
أيضا من المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي، ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون علي، ولا قال ذلك طلحة والزبير، وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء، بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان رضي الله عنه، وهو من باب قتال أهل البغي والعدل، وهو قتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام، لا على قاعدة دينية، أي ليس بسبب خلاف في أصول الدين . ( منهاج السنة 6 / 327 ) .
ويقول عمر بن شبه : " إن أحدا لم ينقل ان عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة، ولا دعوا أحدا ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم " . ( أخبار البصرة لعمر بن شبه نقلا عن فتح الباري 13 / 56 ) .
ويؤيد هذا ما ذكره الذهبي : " أن ابا مسلم الخولاني وأناسا معه، جاءوا إلى معاوية، وقالوا : أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ . فقال : لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمته، والطالب بدمه، فائتوه فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له . فأتوا عليا، فكلموه، فلم يدفعهم إليه ". ( سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 140، بسند رجاله ثقات كما قال الأرناؤوط ) .
وفي رواية عند ابن كثير : " فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية " . ( البداية والنهاية 8 / 132، وانظر كلاما لإمام الحرمين وتعليقا للتباني عليه - إتحاف ذوي النجابة ص 152 ) .
وأيضا فجمهور الصحابة وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : " حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا ايوب السختياني، عن محمد بن سيرين، قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين " .
قال ابن تيمية : " وهذا الإسناد من اصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقته، ومراسيله من أصح المراسيل " . ( منهاج السنة 6 / 236 ) .
فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا مثل هذه النصوص الصحيحة، لتكون لمنطلقا لهم، لا أن يلطخوا أذهانهم بتشويشات الأخبارين، ثم يؤولوا النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة المزجاة .
خامسا: ما ينبغي أن يعلمه المسلم حول الفتن التي وقعت بين الصحابة - مع اجتهادهم فيها وتأولهم - حزنهم الشديد وندمهم لما جرى، بل لم يخطر ببالهم أن الأمر سيصل إلى ما وصل إليه، وتأثر بعضهم التأثر البالغ حين يبلغه مقتل أخيه، بل إن البعض لم يتصور أن الأمر سيصل إلى القتال، وإليك بعض من هذه النصوص :
هذه عائشة أم المؤمنين، تقول فيما يروي الزهري عنها :" إنما أريد أن يحجر بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم اقف ذلك الموقف أبدا " . ( مغازي الزهري ) .
وكانت إذا قرأت {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ..} [الأحزاب:33] تبكي حتى يبتل خمارها . ( سير أعلام النبلاء 2 / 177 ) .
وهذا امير المؤمنين علي بن أبي طالب، يقول عنه الشعبي : " لما قتل طلحة ورآه علي مقتولا، جعل يمسح التراب عن وجهه، ويقول : عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء . . ثم قال : إلى الله أشكو عجزي وبجري . - أي همومي وأحزاني - وبكى عليه هو وأصحابه، وقال: ياليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة " . ( أسد الغابة لابن الأثير 3 / 88 - 89 ) .
وكان يقول ليالي صفين : " لله در مقام عبد الله بن عمر وسعد بن مالك - وهما ممن اعتزل الفتنة - إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطره ليسير " . ( منهاج السنة 6 / 209 ) .
فهذا قول أمير المؤمنين، رغم قول أهل السنة أن عليا ومن معه أقرب إلى الحق . ( فتح الباري 12 / 67 ) .
وهذا الزبير بن العوام رضي الله عنه - وهو ممن شارك في القتال بجانب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - يقول : " إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها "، فقال مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟! قال: " ويحك، إنا نبصر ولا نبصر، ماكان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر " . ( فتح الباري 12 / 67 ) .
وهذا معاوية رضي الله عنه، لما جاءه نعي علي بن أبي طالب، جلس وهو يقول : " إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي . فقالت امرأته : أنت بالأمس تقاتله، واليوم تبكيه ؟! . فقال : ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره " . وفي رواية " ويحك، أنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم " . ( البداية والنهاية 8 / 15 - 133 ) .
وبعد هذه المنقولات كلها، كيف يلامون بأمور كانت متشابهة عليهم، فاجتهدوا، فاصاب بعضهم وأخطأ الأخرون، وجميعهم بين أجر وأجرين، ثم بعد ذلك ندموا على ما حصل وجرى .
وما حصل بينهم من جنس المصائب التي يكفر الله عز وجل بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم ومنازلهم، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يزال البلاء بالعبد، حتى يسير في الأرض وليس عليه خطيئة» [رواه الترمذي 2398 وقال حسن صحيح، وحسنه ابن حبان والحاكم وسكت عنه الذهبي 1 / 41، وحسنه الالباني - المشكاة 1 / 492 من حديث سعد، وصححه في الصحيحة 144، وانظر شواهده 143 145 ، وراجع الفتح 10 / 111 - 112 ] .
وعلى أقل الأحوال، لو كان ما حصل من بعضهم في ذلك ذنبا محققا، فإن الله عز وجل يكفره بأسباب كثيرة، من أعظمها الحسنات الماضية من سوابقهم ومناقبهم وجهادهم، والمصائب المكفرة، والاستغفار، والتوبة التي يبدل بها الله عز وجل السيئات حسنات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ( للتوسع راجع منهاج السنة6 / 205 فقد ذكر عشر أسباب مكفرة ) .
سادسا: نقول أخيرا أن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن الصحابي معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، ثم إذا كان صدر من أحدهم ذنب فيكون إما قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بسابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الدنوب المحققة، فكيف بالأمور التي هم مجتهدون فيها : إن أصابوا فلهم أجران ، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور .
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نادر، مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من إيمان وجهاد وهجرة ونصرة وعلم نافع وعمل صالح . ( أنظر شرح العقيدة الواسطية لخليل هراس 164 -167 ) .
يقول الذهبي رحمه الله : " فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة " . ( سير أعلام النبلاء 10 / 93، في ترجمة الشافعي ).
إذن، فاعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة، فالعدالة استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه . . . ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي .
ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معايبهم ومساوئهم مطلقا - كما مر سابقا -، وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ صحابي، فلا بد أن يقترن بذلك منزلة هذا الصحابي من توبته أو جهاده وسابقته - فمثلا من الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه دون ذكر توبته التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه . . . وهكذا . ( الإمامة لأبي نعيم 340، ومنهاج السنة 6 / 207 ) .
فالمرء لا يعاب بزلة يسيرة حصلت منه في من فترات حياته وتاب منها، فالعبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية، سيما وإن كانت له حسنات ومناقب ولو لم يزكه أحد، فكيف إذا زكاه خالقه العليم بذات الصدور .
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] .
اللهم اجعلنا ممن يحب صحابة رسولك صلى الله عليه وسلم، ويدافع عنهم، ويتبع منهجهم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .