ж وهتفوا جميعاً : لبيك ..لبيك ж
الإسلام دين توحيد خالص، دين لا يؤمن بالوساطة بين العبد وربه، ولا بمشهود محسوس يركز عليه الإنسان تفكيره ويصرف إليه همته ليتخيل به الإله الذي لا تدركه الأبصار، ويرتبط به في خياله، ويتمسك بأذياله، فلا وسائط ولا مظاهر، ولا صور ولا أصناف ولا هياكل، ولا طبقة كهان ولا سدنة: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}، {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}.
إذا فالإسلام دين يطلب تجرداً في الخيال، وسمواً في الفكر، ونقاء في الإرادة والنية، وإخلاصاً في العمل والتطبيق، وانقطاعاً عن الغير لا يتصور فوقه وأكثر منه، ومستوى في الفكر والعقيدة لم تبلغ الإنسانية ولا الأديان والفلسفات والنظم الدينية أو العقلية إلى مثله أو قريب منه، وقد وصف الله نفه بما لا مزيد عليه في الدقة والسمو فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
ولكن الفطرة البشرية هي الفطرة البشرية، فالإنسان ما زال - ولا يزال - باحثاً عن شيء يراه بعينه فيوجه إليه أشواقه ويقضي به حنينه، ويشبع به رغبته الملحة في التعظيم والدنو، وقد اختار الله لذلك أمور ظاهرة محسوسة اختصت به ونسبت إليه وتجلت عليها رحمته، وحفتها عنايته، بحيث إذا رئيت ذُكِرَ الله، وارتبط بها وقائع وحوادث وأفعال وأحوال تذكر بأيام الله وآلائه ودينه وتوحيده وحسن بلاء أنبيائه، وسماها (شعائر الله) التي جعل تعظيمها تعظيمة، والتفريط في جنبها تفريطاً في جنبه، وسمح للناس أن يقضوا بها حنينهم الكامن في نفوسهم ورغبتهم الفطرية في الدنو والمشاهدة، بل حث إلى ذلك ودعا إليه فقال: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} إلى أن قال: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. وقال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكرٌ عليمٌ}.
ثم إن الإنسان ليس عقلاً مجرداً، ولا كائناً جامداً يخضع لقانون أو غرادة قاسرة، ولا (ماكينة) أو جهازاً حديدياً يتحرك ويسير تحت قانون معلوم أو على خط مرسوم، إن الإنسان عقل وقلب، وإيمان وعاطفة، وطاعة وخضوع، وهيام وولع، وحب وحنان، وفي ذلك سر عظمته وشرفه وكرامته، وفي ذلك سر قوته وعبقريته وإبداعه، وسر تفانيه وتضحيته، وبذلك استطاع أن يتغلب على كل معضلة ومشكلة، وأن يصنع العجائب والخوارق، واستحق أن يحمل أمانة الله التي اعتذر عنها السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، ووصل إلى ما لم يصل إليه ملك مقرب ولا حيوان ولا نبات ولا جماد.
إن صلة هذا الإنسان بربه ليست صلة قانونية عقلية فحسب، يقوم بواجباته ويدفع ضرائبه ويخضع أمامه ويطيع أوامره وأحكامه، إنما هي صلة حب وعاطفة كذلك، صلة لا بد أن يرافقها ويقترن بها ويتحكم فيها حنان وشوق، وهيام ولوعة، وتفانٍ وتهالك، والدين لا يمنع من ذلك بل يدعو إليه ويغذيه ويقويه، فتارة يقول القرآن: {والذين آمنوا أشد حباً لله}.
وتارة يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
ويذكر أنبياءه ورسله وينوه بحبهم وحنانهم ويحدث عن أشواقهم وتفانيهم في هذا الحب، فيقول عن يحيى: {وآتيناه الحكم صبيا * وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً} ويحكي قصة خليلة إبراهيم كيف آثر حب الله وطاعته على حب ولده وفلذة كبده وكيف وضع السكين على حلقومه وحاول ذبحه حتى شهد ربه بصدقه وحسن بلائه وقال: {وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين} وذلك سر إطالة القرآن ف ذكر صفات الله وأفعاله وآلائه ونعمائه بها والعودة إليها مرة بعد مرة، فإن الصفات هي التي تثير الحب وتبعث الحنان، وتوحيد الأشواق وذلك سر تفصيل القرآن الذي يعبر عنه بعض علماء الكلام وأئمة الإسلام (بالنفي المجمل والإثبات المفصل) فإن الإثبات هو الذي ينبع منه الحب ويفيض منه الحنان وتنبعث به الأشواق وتتغذى به العاطفة، فإذا كان النفي رائد العقل كان الإثبات رائد القلب، ولولا هذه الصفات العليا وأسماء الله الحسنى التي تطق بها القرآن، ووردت بها السنة، وهام بها الهائمون، وتغنى بها العارفون، وسبح بها المسبحون، وسبح في بحارها ونزل في أعماقها الغواصون، لكان هذا الدين خشيباً جامداً لا يملك على أتباعه قلباً، ولا يثير فيهم عاطفة، ولا يبعث فيهم حماسة، ولا يحدث في القلب رقة، ولا الصلاة خشوعاً، ولا في العين دموعاً، ولا في الدعاء ابتهالاً، ولا في الجهاد تفانياً، وكانت علاقة العبد بربه علاقة محدودة ميتة لا حياة فيها ولا روح، ولا سعة، وكانت الحياة كلها حياة رتيبة خشيبة، لا عاطفة فيها ولا أشواق، ولا حنان فيها ولا هيام، وإذا أي فرق بين الحياة والموت وبين الإنسان والجماد؟
لقد كان المسلم في حاجة إلى غذاء للقلب، وإلى زاد للعاطفة، وإلى أن يقضي شوقه ويروي غلته مرة بعد مرة وعلى فترة بعد فترة، أو كان في حاجة أن تطفح كأسه، فما قيمة كأس لا تطفح أبداً؟ وكان في حاجة إلى أن يثور على عقله الرزين الوقور المقلد المطبق، وما لذة حياة لا ثورة فيها ولا تمرد؟ وكان في حاجة إلى أن يتخطى الدائرة المرسومة من عادات ومألوفات وقوانين وضعية وحضارة مصطنعة ومجتمع قاس، ويفك قيوده وأغلاله، وينزع الزمام من يد عقله الذي استبد به زماناً طويلاً ويعطيه لقلبه وعاطفته فيتحكمان فيه ما شاء، ويهيم على وجهه كما هام الهائمون ويذهب في الحب كل مذهب كما فعل العشاق المتيمنون، فلا حرية لمن ملكه المجتمع وسيطرت عليه الحضارة وتسلطت عليه آلهة التقاليد و(الموضات) ولا توحيد لمن أسرته العادات والمألوفات والشهوات.
لقد كان للمسلم أن يقضي هذا الشوق وأن يبرز هذا الحنان وأن تفيض كأسه في الصلوات التي يصليها كل يوم فيسلي بها قلبه، ويطفئ بها غلته، ويهدي بها ثائرته، ويخفف بها حرارة شوقه ووهج نفسه، ولكنها قطرات معدودة تكون خشوعاً أو تسقط دموعاً، إنها قطرات قد لا تفي بما يجيش في الصدر من حنان وولوع، وهي قطرات قليلة في بعض الأحيان، لا تسمن ولا تغني من جوع.
وكان للمسلم أن يروي ظمأ روحة، ويقضي حاجة حنانه ويكسر سورة نفسه، ويثور على (وثيقة) عاداته ومألوفة، وأن يغذي روحه بتخليه معدته في شهر رمضان، ولكنها ساعات معدودات كذلك، محفوفة بما يخفف أثرها ويضعف سلطانها من أكله متخمة، وري مسرف، وراحة منعمة، ومجتمع ثائر ومدنية قد أحاطت بالصائم كما تحيط البحار المتلاطمة بجزيرة صغيرة، فكان المسلم - بكل ذلك - في حاجة إلى طفرة أو قفزة واسعة يفك بها أغلاله وسلاسله، وينسخ بها من سجنه الضيق القديم العتيق الخالق، وينتقل من عالم كله قديم مألوف، ومقيد محدود، ومخطوط مرسوم، ومصنوع معمول، إلى عالم كله جديد وطريف، وحر منطلق، وثائر مارد كله حب وغرام، وشوق وهيام، قد حرر من كل رق وثار على كل وثن، وكفر باختلاف الجنس واللون والوطن، وآمن بوحدة الإلهية، وبوحدة الحكم والملك، وبوحدة المنعم والوهاب، وبوحدة الإنسانية، وبوحدة العقيدة، وبوحدة المطلوب، وهتف الناس جميعاً بصوت واحد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
لقد كان المسلم في حاجة - بعد هذه الصلوات التي يصليها كل يوم، وبعد شهر رمضان الذي يصومه كل عام، وبعد الزكاة التي يقوم بها إذا تم النصاب وحال الحول - لقد كان بعد ذلك كله في حاجة إلى أن يشهد موسوماً هو ربيع الحب والحنان وملتقى المحبين والمخلصين، ومشهد العشاق والهائمين، وكان ينبغي أن يكون ذلك في مكان قد قام فيه أكبر المحبين وإمام المخلصين، وأشد الناس حباً لله، وأحبهم إلى الله في عصره، وأسرته الصغيرة الطيبة المباركة بأكبر دور في الحب والولاء، والإخلاص والوفاء والإيثار والفداء، وقاموا بأروع وأجملها في تاريخ الحب السامي والولاء الطاهر والإخلاص المعجز، وجاء من بعدهم الأنبياء والمرسلون، والموحدون المخلصون، والمحبون المتفانون في كل عصر، فنسكوا مناسككم وشهدوا مشاهدهم، واحتذوا حذوهم، وترسموا خطاهم، وحكموا هذه الرؤية وأعادوها، فطافوا حول البيت، وسمعوا بين الصفا والمروة، ووقفوا بعرفات، وباتوا في المزدلفة، ورموا الجمرات، ونسكوا في منى، وكان في المكان والزمان وفصول الرواية التي يعيدونها، والأعمال التي يقلدونها، ونسائم الحب التي يستنشقونها، والجو الفائض بالإيمان والحنان الذي يعيشون فيه وطبقات الأمة التي يتصلون بها ويعاشرونها ما يعيد الحياة إلى القلوب الميتة، ويحرك الهمم الفاترة، وينبه النفوس الخامدة، ويشعلل شرارة الحب والطموح التي انطفأت أو كادت تنطفئ، ويجدد الصلة بإمام الملة الحنيفة ومؤسسها إبراهيم الخليل ويمكن به التشبع بروحه والمحافظة على إرثه، والمقارنة بين حياتنا وعرضها عليها، واستعراض ما يعيش فيه المسلمون في العم، وتصحيح ما وقع في حياتهم من أخطاء أو فساد أو تحريف، وإعادة ذلك كله إلى أصله ومنبعه، فالحج عرضة سنوية للملة تضبط أع المسلمين وحياتهم ويتخلصون بها من نفوذ الأمم والمجتمعات التي يعيشون فيها.
أما بعد، فإن الوحدة التي تربط مناسك الحج وأجزاءه وأعماله بعضها ببعض، والتي تسيطر عليه من أوله إلى آخره، هي تهيئة الفرصة للمسلم لقضاء شوقه، وإبراز كوامن حبه، وإطفاء غلة روحه، وتقليد إمام الملة في حبه وإيثاره وفدائه، وهي السر الذي يسهل به فهم مناسك الحج وحكمتها وما تنطوي عليه من معان عميقة دقيقة، ويعلل به السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، والمبيت بمزدلفة ن ورمي الجمرات، واستلام الحجر الأسود إلى غير ذلك من مناسك الحج وأعماله، وقد تعب من لم يفهم هذا السر في تعليل المناسك وللبحث عن فلسفة الحج، واقتصر على الإشادة بفوائده الاجتماعية والسياسية، وأساء إلى نفسه وأتباعه.
إنه لمن المؤلم للنفس حقاً أن المسلم بالمئات بله الألوف في سبيل الذهاب إلى بلاد الإفرنج يعملون بها المدافع، ويصوغون منها القنابل، وآلات التخريب والتدمير، يتحكمون بها في رقابنا، ويقضون على البقية الباقية من حقوقنا واستلالنا، ثم تراه يضن بالعشرات في سبيل بلاده، بلاد المجد المؤثل، وموئل الإسلام، ومسقط رأس أعظم مخلوق دب على الأرض، وهو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
نسأل الله - عز وجل - أن يهيئ لنا أمرنا رشداً، وأن يوقظ نفوسنا ويوجهها وجهة الخير، ويصرفها عن الشر، وأن ينير بصائرنا لنرى سواء السبيل، وأن يحول حالنا إلى أحسن حال، وأن يرزقنا في القريب العاجل حج بيت الله الحرام، والتشرف بزيارة الروضة الشريفة وما ذلك على الله بعزيز.