مناسك الحج أحكامه وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ العَالَمِينَ [ ( آل عمران : 97 ) , ] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [ ( البقرة : 158 )] الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [
( البقرة : 197 ) .
أما بعد : حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار : إنني في شهر ذي
القعدة سنة 1334 عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي ، وكنت أتمنى
ذلك منذ سنين ، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها ، وبعضها من قِبلي ، وقد
خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك
وحكمها ، سهل العبارة ، مأخوذًا مما صح في السنة ، مع الإشارة إلى أقوى مسائل
الخلاف ، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج ، تعليمًا للجاهل ،
وتذكيرًا للغافل ، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم
الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر 24 منه - .
***
الحج والعمرة
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة ، وهو عبادة بدنية مالية ، والصلاة عبادة
بدنية فقط ، وكذلك الصيام ، والزكاة عبادة مالية فقط ، ومعناه القصد إلى بيت الله
الحرام بمكة المكرمة ؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة ، وهذا
النسك منه أركان وواجبات ، وسنن مندوبات ومستحبات .
والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من
الحج غير مشروع في العمرة ، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي .
وهي واجبة عند بعض أئمة العلم ، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج
والعمرة بأن ينويهما ، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام ، ويسمى هذا
( قِرانًا ) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة ، ويسمى
( إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها ، ثم
يُحرم بالحج بمكة ، ويسمى هذا ( تمتعًا ) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه
بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام ،
وعليه فدية ، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من
الحج ، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه ، ككفارة اليمين وزكاة الفطر .
واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل ، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع
أفضل مطلقًا ، أو لمن لم يَسُق ( الهدي ) إلى الحرم . و ( الهدي ) ما يُهدى إلى
الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى - ، فمن ساقه من بلده أو
طريقه فالأفضل له القِران . وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا -
من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها
أو مع الحج ، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه ، ثم نتحلل منها فنستبيح
كل ما يباح لغير المحرم ، ونذبح شاة إذا كان يوم ( التروية ) - وهو الذي قبل يوم
عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة ، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن
يتحلل بعمرة ، ثم يحرم بالحج كذلك .
***
الإحرام والتلبية
لكل قطر من الأقطار مكان يسمى ( ميقات الإحرام ) لا يجوز تجاوزه بغير
إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر ، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف ، فمتى بلغ
الميقات أحرم عنده ، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما ، ويلبي بما نواه بأن يقول :
لبيك اللهم عمرة أو بعمرة ، أو لبيك اللهم حجًّا ، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة ، أو
بحج وعمرة .
وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط . ومن أحرم إحرامًا مطلقًا
قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا
التفصيل صح إحرامه ، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها .
والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما ، وهو
ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية .
ويستحب الاغتسال للإحرام ، ولو لحائض ونُفَساء ، وكذلك التطيب قبله ،
وأن يكون بعد صلاة ، إما صلاة فرض ، وإما صلاة تطوع ، وأن يحرم في ثوبين
نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين ، وأن يكون أحد
الثوبين إزارًا ، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء ، يوضع على
العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال . فلا
يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس ، ولا لبس القميص
والقباء ( القُفطان ) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء ، الذي يسمى
الجزمة أو الكندرة . ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة ، ومن لم
يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده ؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه
سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بعرفات يقول : ( السراويل لمن
يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين ) ولا فِدية عليه عند الشافعي و أحمد لأنه لبس
ذلك للضرورة ، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك ، بأن وجد الإزار والنعلين
وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما ، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية ،
وهي شاة يذبحها . وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية ، وإن لبس ذلك
للضرورة . ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط .
ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا ، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد .
والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين : أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال : لا يلبس القميص
ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس
الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين . ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا
الورس هذا لفظ مسلم . وفي حديث ابن عباس المرفوع ، أنه - صلى الله عليه
وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما . فبعض
العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر ، وقال : لا بد من قطعهما ، وبعضهم
قال : إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر ؛ لأنه بعده .
ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه ، ويجوز له أن يستظل
بالمظلة ( كالشمسية ) وغيرها مما لا يمس رأسه ، ولكن يستحب له أن يعرض
رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه -
رضي الله عنهم - لم يكونوا يستظلون في الإحرام ، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ
عليه قال له : أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له . أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت
له ، ويقال : ضَحَى الرجل ، يَضْحَى ضُحًى ، وضحا ، يضحو ، ضَحْوًا ، وضَحْيًا ،
إذا برز للشمس أو أصابته الشمس .
وأما المرأة فلم ينهها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن وضع النِّقاب
على الوجه ، ولبس القُفّازين في اليدين ، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما
تستر به المرأة وجهها ، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين ، ومثله البُرْقُع .
قال العلماء : فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس . وأما ستره عن
الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه ، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر .
ومن أَضَرّه لباس الإحرام ، فله أن يتقي الضرر ، ولو بتغطية الرأس ، ومتى زالت
الحاجة إلى ذلك تركه .
وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- : ( لبيك
اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك )
وكان - صلى الله عليه وسلم - يلبي من حين يحرم ، يرفع بها صوته ، فرفع
الصوت سُنة للرجل ، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه ، والمرأة ترفع
صوتها بحيث تسمع نفسها ، وكذا جارتها .
ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج ، ولا يزال العرب
يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك ، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه
العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام - . وذلك قوله تعالى له : ] وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [ ( الحج :
27 ) والرجال هنا جمع رَاجِل ، وهو الماشي على رجليه ، أي يأتوك مشاةً
وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة .
فمعنى ( لبيك اللهم ) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها
إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة . والتلبية واجبة عند المالكية ، ومسنونة عند
الجمهور .
وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك
إلى الانتهاء منه . ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط
والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق .
***
دخول مكة والطواف
يستحب الاغتسال لدخول مكة ، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يغتسل له وكان يبيت ( بذي طُوى ) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها : آبار
الزاهر ، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة .
والأفضل دخول مكة نهارًا ، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا ، والأفضل أن
يدخل من باب بني شيبة ؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة - : ( اللهم زد هذا البيت
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً ، وزد من شرفه وكرّمه ، ممن حجه أو اعتمر
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا ) وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا نظر
إلى البيت قال : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام ، فحيِّنا ربنا بالسلام ) .
واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء ، وما يلقنه المطوفون
للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه ما
هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى -
ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك . فعُلم من ذلك
أن ما لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع
منه ، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة ؛
لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع ، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس
ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه . ويُسن أن يصلي بعد الطواف
ركعتين .
والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ
بالطواف ، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم ، وهو واجب
عند المالكية ، وسنة عند الأئمة الثلاثة .
ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر
العورة ، لما رواه الشافعي و الترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون
فيه ، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في
الطواف ، أي : وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة ؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع
في هذه العبادة .
ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف ، امتنع الطواف على الحائض
والنفساء ، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه ، فتتربص به إلى أن تطهر ، ويبتدئ
من الحجر الأسود : يستقبله ويستلمه ويقبّله ، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء
أحد بالمزاحمة ، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها ، فإن لم يمكن
أشار إليه بيده . ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره ، فيطوف به سبعة
أشواط أي : مرات . ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين ؛ لأنهما على قواعد
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - دون الشاميين ؛ لأنهما في داخل البيت .
والركنان اليمانيان هما الجنوبيان ، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما
( الركن الأسود ) إذا ذُكر وحده ، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل : الركن اليماني .
والشاميان هما الشماليان ، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل : ( الركن الشامي ) وهو
المقابل لبلاد الشام ( والركن العراقي ) وهو المقابل لبلاد العراق ، وإنما يقال في
تثنيتهما : اليمانيان والشاميان من باب التغليب .
هذا ، وإن في الحج ثلاثة أطواف : طواف القدوم الذي ذكرناه ، وطواف
الإفاضة ، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة ، ووقته بعد الوقوف بعرفة ،
وطواف الوداع ، وهو واجب عند الجمهور ومندوب عند المالكية ، وللحاجّ وغيره
أن يكثر من طواف التطوع ما استطاع .
***
السعي بين الصفا والمروة
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور ، وعند
الحنفية واجب غير ركن ، ويشترط أن يكون بعد الطواف . وعند الملكية يجب ذلك
وليس بشرط ، ويجب عندهم الموالاة بينه وبين الطواف ، وقال الجمهور : إنه سنة
لا واجب . ويطلق على السعي اسم الطواف والتطوف ، كما ثبت في القرآن
والأحاديث ؛ واختار الفقهاء اسم السعي للتفرقة بينه وبين الطواف بالبيت .
وكيفيته أن يبدأ بالصفا فيصعد إليها ويستقبل البيت ( الكعبة ) فيهلل ويكبر
ويدعو الله - تعالى - ثم ينزل ويذهب إلى المروة فإذا انتهى إليها توجه إلى جهة
المسعى ليكون مستقبلاً للبيت ويدعو الله - تعالى - كما دعاه عند الصفا ؛ فهذه مرة ،
ثم يعود إلى الصفا ثم المروة إلى أن يتم سبعة أشواط ، يرمل في ثلاثة منهن بين
الميلين الأخضرين ( وهما عمودان في جدار الحرم ) .
والرمَل سرعة في السعي ، ولا يشترط في السعي ما يشترط في الطواف من
الطهارة ولكن يستحب ، ويجوز السعي راكبًا وماشيًا والمشي أفضل للقادر عليه .
روى مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا
من الصفا قرأ ] إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ [ ( البقرة : 158 ) وقال : أبدأ
بما بدأ الله به ، وفي حديثه عند النسائي ( ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا ، فرقي
عليه حتى إذا رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله ، وكبره وقال : لا إله إلا الله وحده ،
أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بعد ذلك ، فقال مثل هذا ،
ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة ) الحديث .
وفيه أنه فعل في المروة كما فعل في الصفا . فينبغي أن يحفظ هذا ، وأن
يدعو الساعي بعده بما يفتح الله به عليه لنفسه وأهله وإخوانه وأمته .
***
تنبيه
إن المكان الذي كان يرقى النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه على الصفا ،
قد بُني عليه ، والصعود إليه ليس شرطًا لصحة السعي ، فمن وصل إلى أسفل البناء
هناك وسعى ولم يصعده أجزأه ذلك ، ولكن الأفضل أن يصعده لموافقة السنة في
الصعود .
***
الوقوف بعرفة
يخرج الحجاج من مكة ( يوم التروية ) وهو الذي قبل عرفة ويسميه العوامّ
بمصر والشام ( يوم العرفة ) ويسمون يوم عرفة ( يوم الوقفة ) محرمين ؛ لأن من
كان متمتعًا يحرم في ذلك اليوم كإحرامه من الميقات ، والسنة أن يحرم كل واحد من
المكان الذي هو نازل فيه ، وله أن يحرم من خارج مكة إن كان غير مكي ، فإن
المكي إنما يحرم من أهله ، والسنة أن يبيتوا بمِنًى ، ولا يخرجوا منها حتى تطلع
الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يسيروا منها إلى
( نمرة ) عن طريق ( ضب ) من يمين الطريق ، وهو موضع في حدود عرفة
( ببطن عُرنة ) . فيقيموا فيها إلى الزوال ثم يسيروا منها إلى بطن الوادي ، وهو
الذي صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الظهر والعصر قصرًا وجمعًا ،
وخطب ، فيصليها الحُجَّاج كذلك ويخطب بهم الإمام .
وهناك مسجد يقال له : مسجد إبراهيم بني في أول دولة بني العباس ثم
يذهبون إلى عرفات والعدول عن هذه الطريق إلى طريق ( المأزمين ) ودخول
( عرفة ) قبل الزوال كلاهما مخالف للسنة ، ولكن لا يجب به شيء لأنه ليس تركًا
لشيء من واجبات الإحرام .
ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس ، فإذا غربت خرجوا من بين العلمين أو
من خارجها . ويجتهد الحاجّ في الذكر والدعاء في هذه العشية فهي أفضل الأوقات
لهما وأرجاها للمغفرة والرحمة . ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة
دعاءً ولا ذكرًا ليجتهد كل إنسان في ذلك بقدر معرفته وحسب حاجته . فيهلل ويكبر
ويدعو ما شاء الله من الأدعية الشرعية . ويُسن الغُسل يوم عرفة ، ولا يسن
الصعود إلى الجبل الذي هناك الذي يسمى جبل الرحمة ، - وهو جبل إلال - ولا
دخول القبة التي فوقة ، التي يقال لها : قبة آدم ولا الصلاة فيها .
والسُّنة أن يُفيضوا من عرفات عند الخروج على طريق ( المأزمين ) فإن
النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج منها على هذه الطريق ؛ لأنه دخلها من
طريق ( ضب ) فسنته في المناسك كسنته في الأعمال والمواسم ، إذا جاء من طريق
رجع من أخرى ، كما كان يدخل المسجد من ( باب شيبة ) ويخرج بعد الوداع من
( باب حرورة ) .
***
المبيت بمزدلفة
ورمي الجمار بمنى
يُسن المبيت بمزدلفة بعد عرفة ، فهي المشعر الحرام الذي قال الله فيه :
] فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ [ ( البقرة : 198 )
والوقوف عند ( جبل قزح ) أفضل ، ثم يفيضون من المزدلفة بعد صلاة الفجر ،
فإذا أتوا منى رموا ( جمرة العقبة ) بسبع حصيات ، ولا يرمون يوم النحر غيرها.
وكيفية الرمي أن يستقبل الجمرة بحيث يكون البيت عن يساره ومنى عن
يمينه ، ويرفع يديه بالرمي ويكبر مع كل حصاة . وإن شاء قال مع ذلك : اللهم
اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا . ويستحب تكرار التلبية بين
المشاعر كالذهاب من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى ، ولم يصح في السنة
التلبية في عرفة ولا مزدلفة ، فإذا شرع في رمي الجمرة استبدل التكبير بالتلبية -
أي : جعل التكبير للعيد بدلاً من التلبية للحج ؛ لأنه حينئذ يشرع في التحلل الذي
تنتهي به المناسك . ومتى رمى جمرة العقبة ، نحر هديه إن كان معه هدي . وكل
ما سيق من الأنعام من الحِل إلى الحرم فهو هدي بالاتفاق ، ويسمى أُضْحِيَّة أيضًا ،
وأما ما يُشترى في منى أو غيرها من أرض الحرم ، ويذبح فيها فهو ليس بهدي عند
المالكية ، وعند الأئمة الثلاثة يسمى هديًا . ويقول عند نحر الإبل وذبح غيرها :
بسم الله والله أكبر . اللهم منك ولك ، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك .
***
الحلق أو التقصير
بعد رمي جمرة العقبة يحلق الرجل شعر رأسه أو يقصره ، بأن يقص منه
مقدار الأُنملة أو أقل أو أكثر ، وتقص المرأة ولا تحلق ولا تزيد على قدر الأنملة .
والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يتم إلا به في مذهب الشافعي ، وعند
الجمهور واجب لا ركن . وبالحلق أو التقصير يكون التحلل الأول من الإحرام فيحل
به للمحرم ما كان محرمًا عليه بالإحرام إلا النساء .
وبعد هذا يأتي الحاجّ مكة فيطوف طواف الإفاضة ، الذي هو طواف الركن
كما تقدم ، فإذا طاف هذا الطواف حل له كل شيء مما ذكر حتى النساء .
ثم يرجع إلى منى فيرمي بقية الجمرات ، والأفضل أن يرميها في أيام
التشريق الثلاثة ، وله أن يرميها في يومين لقوله تعالى : ] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [
( البقرة : 203 ) .
ويستحب في رمي الجمار أن يكون بعد الزوال ، وأن يبدأ بالأُولى وأن يكبر
مع كل حصاة . ويدعو فيطيل الدعاء . وإذا قال في دعائه : اللهم اجعله حجًّا
مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا - فهو حسن .
***
طواف الوداع
تقدم حكمه ، وينبغي أن يكون هذا الطواف آخر عهد حجاج الآفاق بمكة ليكون
مسك الختام .