₪♥₪ التداولية واللسانيات ₪♥₪
بالرغم من أن التداولية هي مبحث لساني جديد، لكن البحث فيها يمكن أن يؤرخ له منذ القدم حيث كانت تستعمل كلمة ( pragmaticus) اللاتينية، وكلمة ( pragmaticos) الأغريقية بمعنى (عملي)، ويعود الاستعمال الحديث وكذلك الاستعمال الحالي للتداولية (pragmatics) إلى تأثير العقيدة الفلسفية الأمريكية “البراغماتية”. فقد ساعدت التأويلات التداولية للسيميائية ودراسة الاتصال اللفظي في كتاب “أسس نظرية العلامات” للفيلسوف جارلس موريس عام 1938 في التقريب بين السيمياء واللسانيات. بالنسبة لموريس، تدرس التداولية علاقات العلامات بالمؤولين في حين أن علم الدلالة ( semanitcs) يدرس العلاقات الشكلية بين علامة وعلامة أخرى. وعن طريق توسيع مفهوم البراغماتية ليهتم بمعاني المحادثات، فقد ميزت الدراسات بين نوعين من المعنى هما المعنى الطبيعي والمعنى غير الطبيعي وصارت التداولية تتمركز حول البعد العملي للمعنى أي معنى المحادثة.
وقد ساعدت الاهتمامات العملية في تحويل الانتباه إلى تفسير المحادثات الحاصلة فعلاً وهكذا ظهرت المبادئ التداولية مثل مبدأ التعاون ومبدأ التأدب وهكذا تم تعريف التداولية على أنها فهم اللغة الطبيعية, لقد كانت الفلسفة البراغماتية هي المسير الحقيقي لمبحث التداولية حتى اكتسب استقلالية بوصفه ميداناً فرعياً من اللسانيات.
تعد التداولية مبحثاً من مباحث الدراسات اللسانية التي تطورت إبان سبعينات القرن العشرين. وهذا المبحث يدرس كيفية فهم الناس وإنتاجهم لفعل تواصلي أو فعل كلامي في إطار موقف كلامي ملموس ومحدد. وتميز التداولية بين معنيين في كل ملفوظ أو فعل تواصلي لفظي.الأول هو القصد الإخباري أو معنى الجملة، والثاني القصد التواصلي أو معنى المتكلم. إن القدرة على فهم وإنتاج فعل تواصلي يطلق عليها “الكفاءة التداولية” والتي تتضمن معرفة المرء بالمسافة الاجتماعية والمرتبة الاجتماعية بين المشاركين في الموقف، وكذلك المعرفة الثقافية والمعرفة اللغوية الظاهرة والضمنية، ومن بين مظاهر اللغة التي تدرسها التداولية المشيرات، والتي تشير إلى المعنى السياقي للضمائر ومفردات المكان والزمان، والفرضيات المسبقة التي تشير إلى المعنى المنطقي لجملة ما أو تلك المعاني المقترنة منطقياً بالجملة؛ أفعال الكلام والأفعال الانجازية أي نظرية أفعال الكلام التي تنص على أن الحدث الكلامي يتضمن ثلاثة أنواع من الأفعال:فعل لفظ، فعل إنجاز، وفعل تأثير.
فضلاً عن ذلك يقوم التداوليون بدراسة السبب في نجاح المشتركين في الموقف الكلامي في التخاطب والتحادث مع بعضهم.والفكرة الأساسية هي أن المتحادثين يتبعون مبادئ محددة في مشاركتهم وذلك من أجل استمرار المحادثة.وأحد أهم هذه المبادئ هو “مبدأ التعاون” الذي يفترض أن المتحادثين يتعاونون وذلك من خلال المساهمة في الحدث الكلامي المتواصل. والافتراض الثاني هو مبدأ التأدب الذي ينص على أن يتصرف المتحدثون بتأدب مع بعضهم، طالما أن الناس يحترمون بعضهم بعضاً. إن هذه المبادئ التداولية تختلف باختلاف اللغات ولذلك ثمة اهتمام متزايد بطريقة إتباع الناس في لغات مختلفة لمبدأ تداولي محدد وهكذا ظهر حقل الدراسة التداولية المقارنة لدراسة الفشل التداولي للاتصال وكذلك الاختلافات الثقافية للاتصال.
ومن بين الحقول التي تركز عليها الدراسات في هذا الحقل لغة المتعلم. وهذا الاهتمام تطور إلى ما يسمى تداولية (اللغة البيئية)، أي ذلك الفرع من التداولية الذي يناقش كيف يفهم المتكلمون غير الأصليين للغة ما وينتجون فعلاً كلامياً في اللغة الهدف، وكيف تتطور كفاءتهم التداولية مع مرور الزمن.
لقد وجه الكثير من النقد إلى التداولية، وكان النقد التقليدي هو أن التداولية لا تمتلك تركيزاً واضحاً، وأن هناك توجهاً خصوصاً في الدراسات المبكرة إلى دراسة موضوعات خاصة دون وجود لمكانة للتداولية في اللسانيات ولذلك فقد اقترنت اللسانيات آنذاك باستعارة معروفة عند الدارسين وهي أن التداولية هي ” صندوق القمامة” للسانيات حيث يرمى فيها كل مالا يمكن دراسته ضمن مبادئ اللسانيات آنذاك وهو الفونولوجيا (الصوتيات) وعلم الدلالة والنحو (التركيب)، ومن بين ذلك أيضا أن التداولية وبخلاف النحو الذي يستند إلى قواعد محددة، مبهمة المبادئ حيث أن هذه المبادئ غير قادرة على إقناع الناس بحدود السياق الذي يؤخذ بنظر الاعتبار لتحديد المعاني الممكنة لملفوظ ما. وهناك نقد متطرف يقول أن التداولية ليست مبحثاً مستقلاً طالما أن علم الدلالة هو الذي يدرس المعنى.
على أية حال، ثمة إجماع على أن التداولية هي دراسة منفصلة لأنها تتعامل مع تلك المعاني التي يتغاضى عنها علم الدلالة، وقد انعكست هذه الرؤية في الممارسة التطبيقية لدراسة المعنى. لذلك، فعلى الرغم من هذا النقد، فإن تأثير التداولية كبير جداً ومتعدد الوجود. على سبيل المثال، فقد وفرت أفعال الكلام تفسيرات للسلوك السوسيولغوي، وكذلك وفرت دراسة أفعال الكلام والمشيرات تبصرات في النصوص الأدبية، الشعرية والروائية، ووجدت المبادئ التداولية طريقها إلى دراسة النصوص الأدبية وكذلك اللغة المستعملة في تدريس اللغات عموماً مما يساهم في دراسة الاتصال والإدراك.