(26) وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السندباد البحري لما دفن رفقاءه جميعاً وصار في الجزيرة وحده قال: ثم إني أقمت مدة يسيرة ثم قمت حفرت لنفسي حفرة عميقة في جانب تلك الجزيرة وقلت في نفسي إذا ضعفت وعلمت أن الموت قد أتاني أرقد في هذا القبر فأموت فيه ويبقى الريح يسف الرمل علي فيغطيني وأصير مدفوناً فيه وصرت ألوم نفسي على قلة عقلي وخروجي من بلادي ومدينتي وسفري إلى البلاد بعد الذي قاسيته أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً ولا سفرة من الأسفار إلا وأقاسي فيها أهوالاً وشدائداً أشق وأصعب من الأهوال التي قبلها وما أصدق بالنجاة والسلامة وأتوب عن السفر في البحر وعن عودي إليه ولست محتاجاً لمال وعندي شيء كثير والذي عندي لا أقدر أن أفنيه ولا أضيع نصفه في باقي عمري وعندي ما يكفيني وزيادة ثم إني تفكرت في نفسي وقلت والله لابد أن هذا النهر له أول وآخر ولابد له من مكان يخرج منه إلى العمار والرأي السديد عندي أن أعمل لي فلكاً صغيراً على قدر ما أجلس فيه وأنزل وألقيه في هذا النهر وأسير به فإن وجدت خلاصاً أخلص وأنجو بإذن الله تعالى وإن لم أجد لي خلاصاً أموت داخل هذا النهر أحسن من هذا المكان وصرت أتحسر على نفسي. ثم إني قمت وسعيت فجمعت أخشاباً من تلك الجزيرة من خشب العود الصيني والقماري وشددتها على جانب البحر بحبال المراكب التي كسرت وجئت بألواح مساوية من ألواح المراكب ووضعتها في ذلك الخشب وجعلت ذلك الفلك في عرض ذلك النهر أو أقل من عرضه وشددته طيباً مكيناً وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة وشيئاً من العنبر الخام الخالص الطيب ووضعته في ذلك الفلك ووضعت فيه جميع ما جمعته من الجزيرة وأخذت معي جميع ما كان باقياً من الزاد ثم إني ألقيت ذلك الفلك في هذا النهر وجعلت له خشبتين على جنبيه مثل المجاديف وعملت بقول بعض الشعراء: ترحل عن مكان فيه ضيموخل الدار تنعي من بناها فإنك واجد أرضاً بأرضونفسك لم تجد نفساً سواها ولا تجزع لحادثة اللياليفكل مصيبة يأتي انتهاها ومن كانت منيته بأرضفليس يموت في أرض سواها ولا تبعث رسولك في مهمفما لنفس ناصحة سواها وسرت بذلك الفلك في النهر وأنا متفكر فيما يصير إليه أمري ولم أزل سائراً إلى المكان الذي يدخل فيه النهر تحت ذلك الجبل وأدخلت الفلك في هذا المكان وقد صرت في ظلمة شديدة فأخذتني سنة من النوم من شدة القهر فنمت على وجهي في الفلك ولم يزل سائراً بي وأنا نائم لا أدري بكثير ولا قليل حتى استيقظت فوجدت نفسي في النور ففتحت عيني فرأيت مكاناً واسعاً وذلك الفلك مربوط على جزيرة وحولي جماعة من الهنود والحبشة فلما رأوني قمت نهضوا إلي وكلموني بلسانهم فلم أعرف ما يقولون وبقيت أظن أنه حلم وأن هذا في المنام من شدة
ما كنت فيه من الضيق والقهر. فلما كلموني ولم أعرف حديثهم ولم أرد عليهم جواباً تقدم إلي رجل منهم وقال لي بلسان عربي السلام عليك يا أخانا من أنت ومن أين جئت وما سبب مجيئك إلى هذا المكان ونحن أصحاب الزرع والغيطان وجئنا لنسقي غيطاننا وزرعنا فوجدناك نائماً في الفلك فأمسكناه وربطناه عندنا حتى تقوم على مهلك فأخبرنا ما سبب وصولك إلى هذا المكان فقلت له بالله عليك يا سيدي ائتني بشيء من الطعام فإني جائع وبعد ذلك اسألني عما تريد فأسرع وأتاني بالطعام فأكلت حتى شبعت واسترحت وسكن روعي وازداد شبعي وردت لي روحي فحمدت الله تعالى على كل حال وفرحت بخروجي من ذلك النهر ووصولي إليهم وأخبرتهم بجميع ما جرى لي من أوله إلى آخره وما لقيته في ذلك النهار وضيقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.