السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حسد، أو غيرة أو مقارنات مختلفة بين ذاتك وبين الآخرين،
كلها مراحل قلّما نجد حداً لم يمرّ بها في يوم من الأيام،
فتلك هي فطرة الإنسان، أن يذهب إلى البحث عن سعادته عند الآخرين.
نميل أحياناً، من دون قصد أو وعي، إلى مقارنة أنفسنا بالآخرين المحيطين بنا،
فتكون النتيجة عدم الرضا، الذي سرعان ما يسيطر على علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
أحياناً، نتمنّى لأنفسنا السعادة التي نتخيل أن الآخرين يتمتعون بها،
لكننا نتناسى أنه لا يوجد أحد على وجه الأرض كاملاً.
- قناع:
"غالباً ما يصبغ عدم الرضا عن الذات بعد، مثل هذه المقارنات،
نوعاً من المرارة على علاقتنا بالعالم وبالآخرين. بالتالي يخفي عنّا ما نتمتع به من إمكانات".
هكذا، يفسِّر الأمر المحلل النفسي سافيرو طوماسيلا، المشارك في تأليف كتاب "لا أحد كاملاً".
ولشدة ما يحاول المرء أن يبيِّن للآخرين أشياء ليست شخصيته الحقيقية،
يصل إلى نقطة يكون فيها قد صنع قناعاً خاصاً به يرتديه دائماً، بحيث يكون هذا القناع بمثابة واجهة يُريحه إظهارها للآخرين،
ويتطور ارتداء القناع مع الوقت، ليصبح عادة اختارها الشخص عن قصد،
حتى يحافظ على مكانة اجتماعية معيَّنة، أكثر ممّا يحافظ على سعادته الشخصية.
أما بالنسبة إلى ماري لويز بييرسون، مؤلِّفة كتاب "صورة الذات"،
فإنَّ هذا القناع "ليس أكثر ولا أقلَّ من مجرد استراتيجية تقوم على الاختيار الذي اخترناه لمظهرنا في عيون الناس،
وتصرفاتنا وصورتنا التي نريدها، أي أننا نريد أن نؤثر في حُكم الآخرين علينا،
وأن نُحسِّن صورتنا في أعينهم، لنجعلها إيجابية تخدم مصلحتنا، حتى لو استعملنا في ذلك مؤثرات غير حقيقية".
والحقيقة، أنّ هذا القناع هو الذي يخلق لدينا نوعاً من الاختلال والتعاسة.
فإذا كان هذا القناع يحقق النتيجة المرجوَّة التي تتجلّى في اجتذاب الآخر والفوز بإعجابه،
فإنه يحرم صاحبه من حرية التصرف بشكل طبيعي في حياته، بل يفرض عليه أموراً يكرهها،
عادة من يضغط ثقلها كجبل على شخصيته الحقيقية، فينتهي الأمر به سجين قناعه، مُكبَّلاً بأغلال مظاهره الخادعة.
ولأن الشخص المتظاهر، صاحب القناع، يبني علاقاته مع غيره على قناع مزيف،
فإنه في النهاية يجد نفسه قد بنى علاقاته على قاعدة غير صلبة. إنّ الصورة التي يعطيها الشخص عن نفسه،
تكون صورة مجملة ومقبولة أكثر من صورته الحقيقية، كما أنها لا تطابق صورته الداخلية الأصلية،
وهو يُظهر دائماً ابتسامة قد لا تطابق ما يشعر به من الداخل،
فتكون هذه الابتسامة ابتسامة "تجارية"، مزيفة، يستخدمها فقط كأداة ليجعل الآخر يعتقد بوجود روابط حب وصداقة أو نفوذ،
ومكانة اجتماعية مختلفة عن تلك الموجودة على أرض الواقع.
- ضياع:
يُفسِّر سافيريو طوماسيلا، حاجة البعض منّا إلى وضع قناع قائلاً:
"إنها السؤال العميق حول الوجود، وحول الهوية الذي يفرض نفسه: "مَن أنَا؟"،
خصوصاً الإشكالية الكبيرة التي هي إشكالية العزل والتغريب. فمثلاً، يعتقد كل طفل أنه سينبذ،
إذا لم يخضع للقواعد التي يفرضها أولياء أمره أو لقواعد البيئة المحيطة به، التي يعيش داخلها.
هذا الخلل البنيوي يجعل الطفل شخصاً تابعاً وطيِّعاً، يتبنَّى المبدأ القائل،
إنَّ "من الأفضل أن تلعب دوراً ترضى عنه الجماعة، بدلاً من أن تموت من الجوع، بل إنك قد تموت من الخزي".
إلى جانب هذه الدراما الوجودية، التي يعيشها الكائن البشري،
هناك أيضاً معاناة العيش على أمل أن يعجب الآخرين ويتميَّز في عيونهم". بالنسبة إلى المحلِّلة النفسية كاثرين بودكوزر:
"نحنُ ممزقون بين ما نحنُ عليه، أي ما نحسه من مشاعر وأحاسيس، وما نعتقد أنه الأنسب لنُظهره للآخرين.
وذلك تبعاً للوسط الذي ننتمي إليه. تبدأ الهوّة بين ما نشعر به في الحقيقة والحاجة الماسة
إلى الشعور بأننا محبوبون في التكوُّن، ابتداءً من سن صغيرة جداً. هذه الهوة الخطيرة وهذا التباعُد،
من شأنهما أن يتركا لدينا شرخاً داخلياً، لأنهما يتسببان في إحداث صراعات داخلية من الصعب تخطِّيها.
إذن، فالحاجة إلى وضع قناع يمكن الإحساس بها. إنها غالباً رفض القبول بهذه المشاعر،
مخافة ألّا تكون مناسبة أو ألّا تكون في المستوى المرجّو.
وقد يصل وضع القناع إلى أن يصبح طبيعة ثانية للشخص،
لشدَّة ما يتماهَى معه، حتى يصبح هذا الشخص غير قادر على التعرُّف إلى
"إن حائل قوي يقف دون شعورنا بالحرية التي نرجوها"، بحسب ما تقول بودكوزر.
وقد يصل الأمر بنا إلى أن لا نكون أنفسنا، وأن نهرب في حالة ضَعف أو خطأ ما،
ونلقي بمسؤولية الصعوبات التي تواجهنا على الآخر. وعلى الرغم من كل شيء،
"لا يمكننا نحنُ، بني البشر، أن نتقدَّم في طريقنا إلّا إذا واجهنا أنفسنا وجهاً لوجه"، كما يقول سافيرو طوماسيلا.
الإنسان الكامل لا وجود له.
لذا، فإنَّ كل ما يلزم هو الشجاعة لكي يزيل المرء القناع عن وجهه ويواجه الآخرين كما هو،
في هذه اللحظة فقط نصبح حقيقيين أكثر ومبدعين أكثر وإنسانيين أكثر.
وتصبح الحياة جميلة. ولكي يتحقق هذا، علينا أيضاً أن نترك جانباً التظاهُر والأحكام الجاهزة،
وأن ننتبه ونقبل نواقصنا كما هي، ونعتز بمزايانا ونقاط قوّتنا، لكي نعيش بسلام مع أنفسنا، خاصة أنّ هذا ليس بالأمر السَّهل أبداً.
- الحقيقة:
كل هذه العيوب، ما هي في الحقيقة، إلّا جزء من الآخر الموجود في داخلنا،
هذا الجزء المظلم والمجهول من الشخصية، الذي يختفي في أعماق أعماقنا.
"من أجل إخراج هذا الجانب إلى النور والفوز بنوع من تقدير الذات والاعتزاز بها،
يجب أن نكتشف ما يميزنا كأشخاص عن غيرنا ويجعلنا متفردين ومختلفين عن الآخرين"
، تقول ماري لويز بييرسون. تضيف: "من المهم جداً أن نرى أنفسنا على حقيقتها،
كما هي ومن دون أن نكذب، أو نحاول تغليف الحقيقة. إنَّ احترامنا لذواتنا،
من خلال تقبُّلنا لها كما هي، بعيوبها ومحاسنها، بضَعفها وقوتها،
هو علامة على مدى تقديرنا لأنفسنا. فالبعض منّا عندما يعرفون مصدر غضبهم وحزنهم ومخاوفهم،
يقاومونه ويجعلون ذواتهم أكثر انفتاحاً وإقبالاً على الآخرين، وذلك بالتخلص من شكوكهم وعدم ثقتهم بأنفسهم".
إنَّ أكثر الناس استمتاعاً بوجودهم بين الآخرين، هم أولئك الذين أجروا تقييماً لأنفسهم وتوصَّلوا إلى حصيلة واقعية وحقيقية،
من دون تزييف، وتعرّفوا إلى نقاط ضَعفهم جيداً، وتقبّلوها بكل تواضُع.
إذن، أن يقف المرء وقفة تأمُّل أمام ذاته لتقييم صورتها، ليس سلوكاً نرجسياً فارغاً،
بل هو خطوة ينبغي أن تُقضي إلى التعرُّف إلى الذات، وإلى نوعية الصورة التي نعطيها إلى الآخرين عن أنفسنا.
كل هذا طبعاً يؤدي بنا إلى التحكُّم بشكل أفضل في علاقاتنا بالآخرين، في إطار صحي أكثر وفعال أكثر، والأهم أنه حقيقي أكثر.
من المؤكد أنَّ هذه الوقفة أمام الذات وتصحيح صورتنا لدى الناس، لتكون أكثر واقعية،
أمران إيجابيان يؤديان إلى راحة أكبر وتصالح مع الواقع. غير أنه، بالضرورة، تبقَى هناك
لحظات صعبة قد يمرُّ بها الإنسان بعدها. لكن، عندما يتحول الإنسان ليصبح أكثر قدرة على تقبُّل الواقع،
يجعله ذلك أكثر قدرة على مواجهة مشكلاته، أي بكل صفاء ذهن وفاعلية