الحمد لله على نعمة الإسلام والصلاة والسلام على خير الأنام ... وبعد ...
فإن القرآن حجة الله الباقية ومعجزته الخالدة وحادي الطريق إلى صراط الله المستقيم ... فمن اتبعه فقد اهتدي ومن أعرض عنه فقد ضل وغوى ....
ومن أعظم نعم الله التى لا تحصى ولا تعد
نعمة الفهم
ومن يرد الله به كل خير يفهمه دينه وكفى بها نعمة مع العمل
اتفقنا في موضوع سابق أن القرآن فريد في تراكيبه ولغته ونقلنا عن الثقات من أهل العلم كيف أبطلوا دعاوى المشككين في كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه
كما في موضوع :
الرد على من زعم أن القرآن يحتوي على أخطاء لغوية
ومع تلك الرود الماتعة لأهل العلم كان التنبيه على قضية هامة يجب الانتباه إليها عن الحديث عن القرآن وكان الموضوع التالي:
نظرات نحوية في القرآن الكريم (من أصول الرد على المشككين)
وذلك كانت الوصية المتكررة:
( يا طلاب العلم، القرآن أولا)
والله المستعان
وسوف أستعين الله تعالى في نقل كلام لأهل العلم يجملون فيه البحث في قضية من أمتع قضايا اللغة القرآنية الفريدة ...
إنها قضية
الاستفهام في القرآن الكريم:
الاستفهام : لغة مصدر استفهم ,وهو طلب الفهم,فهم الشيء بالكسر فَهْما و فَهَامةً أي علمه وفلان فَهِمٌ و اسْتَفْهَمَهُ الشيء فَافْهَمَهُ و فَهَّمَهُ تفهِيما و تَفَهَّمَ الكلام فهمه شيئا بعد شيء ,وغرضه طلب الإفهام لأمر يتعلق بشخص أو شيء ما والعلم به.
وأسلوب الاستفهام هو أسلوب لغوي من أساليب السؤال,يهدف إلى طلب الإفهام تصورًا أو تصديقًا, وقد ضمنه النحويون في الإنشاء الطلبي.
وقسمه النحويون إلى نوعين:
1.الاستفهام الحقيقي: يقصد به صاحبه معرفة ما يجهله
2.الاستفهام المجازي: يعلم فيه صاحبه جوابه ولكنه يقصد معنى آخر يفهم من السياق بعد التأمل في النّص .وأطلق عليه بعض النحويين الاستخبار.
قال ابن فارس: الاستخبار: طلب خبر ما ليس عند المُسْتَخْبِر، وهو الاستفهام وذكر ناس أن بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق: قالوا: وذلك أن أولى الحالين الاستخبار، لأنك تستخبر فتُجاب بشيء، فربما فهمتَهُ، وربما لم تفهمه، فإذا سألت ثانية فأنت مُسْتفهم، تقول: أفهمني ما قُلتَه لي. قالوا: والدليل على ذلك أن البارئ ـ جل ثناؤه ـ يوصف بالخُبْر ولا يوصف بالفهم.
.وكما يمكن تقسيم الاستفهام من حيث الإثبات والنفي إلى قسمين : الاستفهام المثبت ,والاستفهام المنفي, ولا فرق بين النوعين ، إلا أن الأول يخلو من أحرف النفي ، والثاني يكون منفيا,مثال الأول قوله تعالى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ",ومثال الثاني قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى".
وللاستفهام أدوات يتحقق بها الغرض من طلب الإفهام,وهذه الأدوات إما أن تكون حروفًا أو أسماءً.
فأما الحروف ,فهي حرفان:
1.الهمزة, كقوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ".
2.هل, كقوله تعالى:" هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ".
وأسماء الاستفهام إما مبنية أو معربة,فالمبنية هي:
1.ما,مثال قوله تعالى:" مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ".
2.مَن, كما يقول الله تعالى:" مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ".
3.متى,كما في قوله تعالى:" وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ".
4.أين, مثل قوله تعالى:" أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ"
5.كم,كما في قول الله تعالى:" وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا".
6.كيف. يقول الله تعالى:" كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ".
7.أيان: كما يقول الله تعالى:" أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ".
8.أنىّ, في قول الله تعالى:" أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ"
والمعربة وهي أسم واحد وهو:
1.أيّ,كما في قول الله تعالى:" فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ".
وأما استعمالات أدوات الاستفهام فهي:
1.الهمزة: تأتي لطلب التصور والتصديق، بينما "هل" تأتي للتصوُّر خاصة.
ومن خواص الهمزة أنها تدخل على حروف أخرى مثل:
1.الواو, كما في قول الله تعالى:" أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ"
2.الفاء:,كما في قول الله تعالى:" أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ"
3.ثم: كما في قول الله تعالى:" أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ"
4.لم: وعند دخولها على حرف"لم"فأنها تفيد معنيين,أولها:التنبيه والتذكير كما في قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ",والثاني:التعجب من الأمر العظيم،كما في قوله تعالى:" أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً".
5.وتدخل على "ليس",كما في قوله تعالى:" أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ",وهنا تفيد التقرير بما بعد النفي,وتستلزم الجواب إلا أنه في هذا السياق محذوف وتقديره:" بلى وأنا على ذلك من الشاهدين".
كما وأنها قد تدخل على الفعل,وخاصة "رأيت",وحينها تنقل معنى الرؤية من العين أو القلب إلى معنى " أخبرني"، ومنه قوله تعالى:" أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ".
هل: يطلب به معرفة مضمون الجملة ، لأن السائل يجهل العلم به,قال الزركشي في كتابه"البرهان في علوم القرآن":" ولا يكون المستفهم معها إلا فيما لا ظن له فيه ألبتة؛ بخلاف الهمزة، فإنه لا بدّ أن يكون معه إثبات. فإذا قلت: أعندك زيد؟ فقد هجس في نفسك أنه عنده فأردت أن تستثبته؛ بخلاف "هل". حكاه ابن الدّهان.
و"هل" قد تأتي في النص ولها معاني:
1. بمعنى "قد"، كقوله تعالى: "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ"
2. بمعنى "ما" كقوله:"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ",
3.وبمعنى "ألا" كقوله:"هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً",
4.وبمعنى الأمر، نحو: "فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ",
5.وبمعنى السؤال: "هَلْ مِن مَّزِيدٍ".
6.وبمعنى التمنّي:"هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ",
7.وبمعنى "ادعوك"، نحو: "هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ".
أسماء الاستفهام المبنية:
1."ما" : اسم استفهام مبني على السكون لغير العاقل, بمعنى "أيّ شيء"، ولها صدر الكلام كالشرطية ,وقد جوّز بعض النحويين أن يسأل بها عن أعيان من يعقل أيضاً.
ومن أمثلة استعمالها لغير العاقل:" وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ". والذين قالوا باستعمالها للعاقل استدلوا بقول الله تعالى:" وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ", ورد عليهم الزركشي : إنما هو سؤال عن الصفة؛ لأن الربّ هو المالك والمِلْك صفة، ولهذا أجابه موسى عليه السلام بالصفات. ويحتمل أن "ما" سؤال عن ماهيّة الشيء، ولا يمكن ذلك في حق الله تعالى، فأجابه موسى تنبيهاً على صواب السؤال ".اهـ
والذي أراه أن "ما" تستعمل فقط لغير العاقل والدليل قول الله تعالى:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ"",فلو َكانت "ما" للعاقل لدخل عيسى عليه السلام في جملة الذين يعبدون من دون الله,وأما قول الله تعالى:" وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ",فهي على لسان فرعون وانطلاقًا من عقيدته الفاسدة فهم كانوا يعبدون الشمس_رع_ والقمر والجبل والبحر وغيره من غير العاقل,فتوهم فرعون أن رب العالمين من نوعها,ولهذا جاء جواب سيدنا موسى عليه السلام:" قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ",وكذلك جوابه:" قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ",فنفى أن يكون رب لعالمين واحدًا مما كانوا يعبدون,فرب العالمين عالم حيّ قيوم.
و"ما" يمكن أن تقرن بـ" ذا ", نحو قوله تعالى:" وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ".
2."من":اسم استفهام للعاقل، مبني على السكون,وتحمل معنى النفي,نحو قوله تعالى:" وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ",أي لا يغفر الذنوب إلا الله.
وهناك من أثبت اقترانها بالواو, ولكن قول الله تعالى:" مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ",تنفي ذلك.
كما ويمكن أن يدخل على "ما" أحد حروف الجر:"عن ,من,في,الباء واللام":
*"عن": كما في قول الله تعالى:" عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ"
*"في":كما في قول الله تعالى:" قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ"," فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا"
*"اللام": كما في قول الله:" لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ"
*"الباء": في قوله الله تعالى:" فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ".
*"من": في قول الله تعالى:" فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ".
3."متى": اسم استفهام مبني على السكون يفيد الظرفية الزمانية المطلقة ,أي أنه غير محدد الزمن.
ومنه قوله تعالى :" مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ".
ونحو قول الله تعالى:" مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ".
4."أين": اسم استفهام مني على الفتح يدل على المكان.
ومنه قول الله تعالى:" أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ".
5."أيان": اسم استفهام للزمان المستقبل ، مبني على الفتح,وتأتي في الاستفهام عن الشيء المعظَّم أمره (موضع تفخيم). نحو قوله تعالى:" أَيَّانَ مُرْسَاهَا",لعظيم يوم القيامة,وكقوله تعالى:" أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ".