۩۩ صلاة الجماعة واهميتها ۩۩
كان واضحًا جليًّا أكثر هو حض النبي على صلاة الجماعة، وأنَّه لا مَجالَ لعذر في تركها، وأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفضل ويُحبذ أنْ يَخرج الكسيح والمقعد يحبو على يديه ورجليه لشهود صلاة الجماعة، ليس هذا فحسب، بل أمر بهذا، ولكن قبل سرد هذه الاستدلالات، ارجع بالذَّاكرة إلى ما تحصده عند خروجك للصلاة، فإنك:
1- معلق القلب بالمسجد سيكون في ظلِّ الله - تعالى - يوم القيامة؛ مما يدُلُّ على فضل الصلاة في جماعة أنَّ مَن كان شديدَ الحب للمساجد لأداء الصلاة مع الجماعة فيها، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - سيظله في ظله يومَ لا ظلَّ إلاَّ ظله؛ فقد روى الشيخان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظله))، وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد...)).
يقول الإمام النووي في شرح قوله: ((ورجل قلبه معلق في المساجد)): \"معناه: شديد المحبة لها، والملازَمَة للجماعة فيها، وليس معناه القعود في المسجد\".
2- فضل المشي إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة.
3- آتِي المسجد زائر الله تعالى.
ومما يدُلُّ على فضل صلاةِ الجماعة في المسجد ما قاله الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من توضأ، فأحسنَ الوضوء، ثُمَّ أتى المسجد، فهو زائر الله، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر)).
4- فرح الله - تعالى - بقدومك، ويستقبلك، ويرحب بك.
ومما يدل على فضل الصلاة مع الجماعة في المسجد ما قاله الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يتوضأ أحدُكم، فيحسن وضوءه ويسبغه، ثم يأتي المسجدَ لا يريد إلاَّ الصلاة فيه، إلاَّ تَبَشْبَشَ الله إليه، كما يتبَشْبش أهلُ الغائب بطلعته))، والبش كما يقول الإمام ابن الأثير: هو فرح الصديق بالصديق.
5- الملائكة تدعو لك من أول دخولك المسجد إلى أن تخرج منه، ومما يدُلُّ على فضل الصلاة مع الجماعة أنَّ مَن جلس في انتظارها، فهو في الصلاة، وأنَّ الملائكة تستغفر له، وتدعو له بالرحمة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يزال العبدُ في صلاةٍ ما كان في مُصَلاَّه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يُحْدِث))؛ صحيح.
6- إنْ صليتَ في الصف الأول تصلي عليك الملائكة: روى أبو داود عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإنَّ الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه)).
شرح قوله: ((على مثل صف الملائكة))؛ أي: في القرب من الله - عزَّ وجلَّ - ونزول الرحمة، وإتمامه واعتداله... كما أنَّ الله - تعالى - وملائكته يُصلون على الصفوف الأولى، وميامِن الصفوف، فقد قال النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفِّ الأول أو الصفوف الأولى))؛ لذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لو يعلم الناسُ ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلاَّ أن يستهموا عليه، لاستهموا)).
7- بل إنَّها كالماء الذي يُطفئ النار وسوادها، ويغسل أثَرَها من بين جوانح الإنسان؛ لهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن لله ملكًا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
وهو ما شرحه ابن مسعود عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون، فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا)).
8- لذلك لما سئل النبيُّ عن أحب الأعمال، قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود، قال: \"سألت النبيَّ: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على أوقاتِها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
9- بكلِّ ركوع وسجود تتهاوى وتتساقط آثامُك وجرائرك العظيمة؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العبدَ إذا قام يُصلي، أُتِي بذنوبه كلها، فوُضِعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد، تساقطت عنه))؛ رواه الطبراني بسند صحيح.
10- مع أهمية الإخلاص في هذا العمل؛ فعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((يكشف ربُّنا عن ساقه، فيسجد له كلُّ مؤمن ومُؤمنة، ويبقى من كان يسجدُ في الدنيا رياءً وسُمعة، فيذهب ليسجدَ، فيعود ظهره طبقًا واحدًا))، وفي لفظ: ((... فيُكشف عن ساقٍ، فلا يبقى مَن كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلاَّ أَذِنَ الله له بالسجود، ولا يبقى مَن كان يسجد اتِّقاءً ورياءً، إلاَّ جَعَلَ الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد، خرَّ على قفاه، ولكن انظر إلى مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصَّحابة فيما يخصُّ صلاة الجماعة؛ لتعرفَ خُطُورة الموقف.
11- لَم يرخص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للأعمى بعيدَ الدار في التخلف عن الجماعة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: \"أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، إنَّه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يرخص له، فيصلي في بيته، فرخَّص له، فلما ولَّى، دعاه فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟))، فقال: نعم، قال: ((فأجب))\".
وعن ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - أنَّه سألَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: \"يا رسولَ الله، إنِّي رجل ضرير البَصَر، شاسع الدار، ولي قائد لا يُلائمني، فهل لي رخصة أنْ أصلي في بيتي؟ قال: ((هل تسمع النداء؟))، قال: نعم، قال: ((لا أجد لك رخصة))\".
وفي لفظٍ أنَّه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أتسمع حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح؟ فحَيَّ هَلاً)).
وهذا يصرح فيه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنه لا رخصةَ للمسلم في التخلف عن صلاة الجماعة إذا سَمِعَ النداء، ولو كان مُخيَّرًا بين أنْ يصلي وحدَه أو جماعة، لكان أَوْلَى الناس بهذا التخيير هذا الأعمى الذي قد اجتمعَ له ستةُ أعذار: كونه أعمى البصر، وبعيد الدار، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، وليس له قائد يُلائمُه، وكبير السن، وكثرة النخل والشجر بينه وبين المسجد.
12- هَمَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتحريق البيوت على المتخلِّفين عن صلاة الجماعة، ولفظ البخاري عن أبي هريرة: ((والذي نفسي بيده، لقد هَمَمْتُ أنْ آمر بحطب ليحطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمر رَجلاً، فيؤم الناس، ثم أُخَالِف إلى رجالٍ، فأُحرِّق عليهم بيوتَهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقًا سَمينًا[1]، أو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ[2]، لشهد العشاء))، وفي هذا الحديث دلالة على أن صلاة الجماعة فرض عين[3].
وانظر أيضًا إلى صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا فاتتهم تكبيرةُ الإحرام مع الإمام رُبَّما غشي عليهم من ألَمِ هذا المصاب العظيم، وكانوا يُعَزُّون من فاتته تكبيرة الإحرام.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: \"مَن سَرَّه أن يلقى الله - تعالى - غدًا مُسلمًا، فليحافظْ على هؤلاء الصلوات؛ حيث ينادَى بهن، فإنَّ الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سُنَنَ الهدى، وإنَّهن من سنن الهدى، ولو أنَّكم صليتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم، لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلاَّ مُنافق معلوم النِّفاق، ولقد كان الرجلُ يُؤتى به، يُهَادَى[4] بين الرَّجُلَين؛ حتى يقام في الصف\"؛ رواه مسلم.
لم يكن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأبي هو وأمي ليُرغِّب الناس في صلاة الجماعة ولا يهتم بها، بل كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشد الناس اهتمامًا بها، حتَّى في أشدِّ الأحوال وأصعبها، وفيما يلي أذكر موقفين له:
أ- قيامُه بأداءِ الصلاة مع الجماعة في شدة المعركة:
فقد روى الإمامُ مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: \"غَزَونا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قومًا من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديدًا، فلما صلينا الظهرَ، قال المشركون: \"لو ملنا عليهم ميلة واحدةً لاقتطعناهم\"، فأخبر جبريلُ الرسولَ بالأمر، فذكر لنا ذلك رسولُ الله قال: وقالوا: \"إنَّه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد\"، فلما حضرتِ العصرُ، قال: صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة، قال: فكبر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد فسجد معه الصفُّ الأول، فلما قاموا، سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني، فقاموا مقامَ الأول، فكبَّر رسول الله وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعًا، سَلَّم عليهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويتجلى اهتمامُ الرسول بصلاة الجماعة من عدة وجوه، وهي:
1- أدَّى الرسولُ صلاةَ الظهر مع الجماعة أثناء قتالِ قومٍ من جهينة، وكانوا قد قاتلوا المسلمين قتالاً شديدًا.
2- أنَّ الاطِّلاع على قرار المشركين بالإغارة دفعة واحدة أثناء تأديتهم لصلاةِ العصر مع الجماعة - لم يقلل من اهتمامه - عليه الصلاة والسلام - بها.
ب - جهود النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للخروج لصلاة الجماعة في شدة المرض:
فقد رَوى الإمامُ البخاري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: \"دخلتُ على عائشة - رضي الله عنها - فقلت: ألاَ تحدثيني عن مرضِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: بلى، ثَقُلَ (بضم القاف) النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أَصَلَّى الناس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ((ضَعُوا لي ماءً في المخضب))، قالت: فعلنا، فاغتسل - عليه الصلاة والسلام - فذهب لينوء؛ أي: ليقومَ، فأغمي عليه، ثم أفاق - عليه الصلاة والسلام - فقال: ((أَصَلَّى الناس؟))، قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب))، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: ((أصلى الناس؟))، فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد؛ أي: مُجتمعون ينتظرون النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لصلاة العشاء، فأرسل النبي إلى أبي بكر - رضي الله عنه - بأنْ يُصلي بالناس، فأتاه الرسولُ الذي بعثه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: \"إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - يأمرك أن تصلي بالناس\"، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: وكان رجلاً رقيقًا: \"يا عمر، صَلِّ بالناس\"، فقا ل له عمر - رضي الله عنه -: \"أنت أحق بذلك\"، فصلى أبو بكر تلك الأيام....\"؛ الحديث.
الله أكبر، كم كان - صلوات الله وسلامه عليه - حريصًا على حضور صلاة الجماعة، يشتد مرضه فيغتسل، ثُمَّ يُغمى عليه، فيُفيقُ، فيغتسل للمرة الثانية، ثُمَّ يُغمى عليه، فيُفِيقُ، فيغتسل للمرة التالية، كلُّ ذلك لعله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكسب نشاطًا يُمكِّنه بفضل الله - تعالى - من حضور صلاة الجماعة في المسجد.
جـ- الذهاب إلى المسجد في الظروف الصعبة:
ومما يدُلُّ على حرص سلف الأمة على نَيْلِ ثواب صلاة الجماعة: سعيُهم إليها في الظروف الصعبة، ومن ذلك ما رُوِيَ أنَّه قيل للتابعي سعيد بن المسيب: \"إنَّ طارقًا يريد قتلَك فتغيَّب، اجلس في بيتك\"، فقال: أسمع حَيَّ على الفلاح، فلا أجيب؟!
د- اهتمام ولي الأمر بصلاة الجماعة:
ومما يؤكد اهتمام سلف الأمة بصلاة الجماعة: ما نَجد من عناية ولاة أمور المسلمين الأوائل بها، فعلى سبيلِ المثال: نَجد أميرَ المؤمنين - رضي الله عنه - عمر بن الخطاب حينما بعث غلامًا إلى من كان قد ذهب بصرُه؛ كي يقوده إلى المسجد، فقد روى ابن سعد عن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة، قال: جاء عمر - رضي الله عنه - سعيد بن يربوع إلى منزله، فعزاه في ذهاب بصره، وقال: \"لا تدع الجمعة، ولا الصلاة في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم\"، قال: ليس لي قائد، فقال الفاروق: فنحن نبعث إليك بقائد، فبعث إليه بغلام من السبي.
ونجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يمر في الطريق مناديًا: \"الصلاةَ الصلاة\"، كان يوقظ بذلك الناسَ لصلاة الفجر، وكان - رضي الله عنه - يفعل ذلك كل يوم.