وفي عصر الأبوة ظهرت تصورات مستجدة عن شخصيات بطلة تصارع قوى الطبيعة وتنتصر عليها بعد أن كانت لاتقهر، ويظهر الوعي الاجتماعي منظماً في خفايا الأساطير، فتبدو تلك الشخصيات حارسة للمجتمع من أعدائه سواء كان هؤلاء الأعداء من قوى الطبيعة أم من القبائل المجاورة. ومن ذلك مثلاً الإله مردوخ البابلي الذي يقتل الهولة تيامات ويصنع من جسدها السماء والأرض، وكذلك غلغامش البطل الذي قتل الثور المقدس بمعونة إنكيدو، وكانت عشتار قد بعثت بذلك الثور لتدمير أوروك. ومن ذلك أيضا «ميترا» عند الشعوب الإيرانية الذي يصارع الأرواح الشريرة وينتصر على الثور المخيف، و«رع» عند المصريين القدامى الذي يناضل الأفعى «أبوب»، وعند اليونان ينتصر زيوس على الجبابرة والعمالقة والتنين، وينفذ هرقل مآثره الاثنتي عشرة. وفي ألمانية وعند شعوب الشمال يصارع سيغفريد (سيغورد) التنين وينقذ العذراء منه، وفي روسية يصارع إيليا مورامتس الأفعى ويقتلها. ولكن معظم الأساطير المعروفة اليوم كثير التعقيد تراكمت معطياته على مر العصور. فقصة المينوطورMinotaur أو ثور مينوس (هولة نصفها ثور ونصفها إنسان ) في الأساطير اليونانية دليل على أنها نتاج عصور مختلفة، فرأس الهولة الذي يشبه رأس الثور يدل على أن أصل الأسطورة من عصر الأمومة الأول حين كان الإنسان لا يميز نفسه من الحيوان، أما تمثيل المينوطور في النجوم والفلك وكذلك مقتله على يد تيسوسTheseus فيتصلان على الأرجح بعصر الأبوة.
يتضح من دراسة الأساطير المختلفة أن الفكر الأسطوري توصل في مراحله الأولى إلى الربط بين الحوادث التاريخية والظواهر الكونية، ومع انتقال البشر إلى حياة الاستقرار تعزز ارتباطهم بالأرض وتعزز تصورهم لوحدة القبيلة والجنس، وظهرت إلى الوجود عبادة الأسلاف والأساطير التي تروي مآثرهم (الأساطير التاريخية)، ثم حلت محلها أساطير الآلهة والأرباب السابقين (نشأة الكون وأصل الآلهة)، وانتهت محاولات تحري المستقبل والحياة بعد الموت إلى ظهور أساطير «الأخرويات». ولما كانت الأسطورة معنية بالمجتمع فقد كانت لها وظيفة تعريف المجتمع البدائي بما يحيط به، وتفسير المسائل المعقدة التي تصادف البشر، كأن تفسر كيفية خلق الإنسان والكون وسر الحياة و الموت وغير ذلك.
وكانت المجتمعات البدائية في مرحلة تكون الأساطير تملك نوعاً من الإيمان الفطري ووحدة العقيدة، ومع تطور المجتمعات الحضارية القديمة في عهودها الأولى غدت الأسطورة تعبيراً مجازياً عن مختلف الأفكار الدينية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية، ودخلت الفن والأدب من أوسع الأبواب، وصارت لها استخدامات وأشكال متنوعة بحسب وجهات نظر الرواة والكتاب والفنانين وأرباب السياسة والفلسفة، وبحسب اختلاف عصورهم وأساليبهم وإسقاطاتهم، وهذا ما حفظ للأساطير بقاءها وتطورها. وماتزال النماذج الأسطورية إلى اليوم تخدم آراء السياسيين والأدباء والفلاسفة والفنانين. ولما كانت الأسطورة وسيلة من وسائل فهم ظواهر الطبيعة والحياة الإنسانية على مر العصور، فإن العلم الحديث يرى فيها تاريخاً للصراع بين القديم والحديث، ورواية تحكي قصة الإنسانية وما مر بها من معاناة ومسرات.
علم الأساطير والدراسات المتصلة به
شهد عصر النهضة انطلاقة الدراسات العلمية للأسطورة، ولكن هذه الدراسات اقتصرت حتى القرن الثامن عشر على أساطير تلك العصور التي يدعوها علماء الغرب العصور الكلاسيكية، ويقصدون بها العصور اليونانية والرومانية. وقد ساد الاعتقاد زمناً في عصر النهضة أن الأساطير الدينية الوثنية تحريف للوحي التوراتي. وبعد أن اطلع الغربيون على حضارات مصر والشام والرافدين وبلاد الشرق وشعوب أمريكة وتعرفوا أساطيرها، توافرت لديهم إمكانات القيام بدراسات مقارنة بين مختلف الشعوب. وكان الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكو (1668-1744م)Giambattista Vico أول من أعطى الأسطورة مفهوماً تاريخياً، وبين دور مخيلة الإنسان المبدعة في تكوين الأسطورة على مراحل حضارية متتالية، ولكن آراءه لم تؤثر في عصره آنذاك. وفي عصر التنوير[ر] أنكر المفكرون الفرنسيون الدور التاريخي للأسطورة ورفضوا إعطاءها أي قيمة علمية، وعدّوها قصصا طفولية ونتاج الجهل مثل الخرافة والخُزَعْبل، ومن هؤلاء فولتير وديدرو ومونتسكيو وفونتنيل. في حين وجد الشاعر الاسكتلندي جيمس ماكفرسون[ر] (1736-1796)J.Macpherson وكذلك الفيلسوف الألماني يوهان هيردر[ر] (J.G.von Herder (1803-1744 في الأسطورة تعبيراً عن الحكمة الشعبية. ومع تغلب الإبداعية (الرومنسية) في مطلع القرن التاسع عشر وتسليم علماء اللغات بالأصول السنسكريتية لأسرة اللغات الهندية الأوربية، وازدياد الاهتمام بالدراسات المقارنة عادت الأسطورة لتحتل حيزاً مهماً من تلك الدراسات، ونشطت عمليات جمع الأساطير والحكايات والقصص الشعبية والملاحم، وظهرت في ألمانية بدايات ما أصبح يعرف باسم «المدرسة الأسطورية» mythological school التي قادت اتجاها في الأدب يبرز مكانة الأسطورة والأدب الشعبي وأثرهما في هذا المضمار. وكان من رواد هذه المدرسة فريدريخ شلنغ (F.Schelling (1854-1775 وأوغست شليغل (A.Schlegel (1845-1767 وشقيقه فريدريخ (1724-1829)، والأخوان ياكوب غريم (1785-1863) وفلهلم غريم (1786-1859) J.&V.Grimm. وقد طرحت هذه المدرسة مسألة شعبية الفن والأدب وأثر الأسطورة في ولادتهما، وكان لها أنصار في كل أوربة انقسموا فريقين استند أولهما في إعادة تركيب الفكر الأسطوري إلى علم التأصيل اللغوي etymology (الألمانيان أدلبرت كوهن A.Kuhn وماكس مولر M.Muller والفرنسي ميشيل بريال M.Breal والروسي فيودور بوسلايفF.I.Buslaev) ، واعتمد الفريق الثاني علم القياس analogy في الموازنة بين الأساطير المتشابهة (الألمانيان فلهلم شفارتز W.Schwarz وفلهلم مانهاردت W.Manhardt). وتفرعت عن هذه المدرسة نظريات عدة منها ما يرى في الأسطورة تفسيراً مجازياً للظواهر الفلكية والنوئية، ومنها ما يرى في الأسطورة مرآة للحياة العادية والأرواح الحارسة والشياطين، وهناك كذلك نظرية الأرواحية التي ألبس أنصارها الطبيعة مفهومهم عن الروح. ويأتي في مقدمة هؤلاء: البريطانيون إدوارد تايلور (E.Tylor (1917-1832 وهربرت سبنسر (H.Spencer (1903-1820 وأندرو لانغ (A.Lang (1912-1844 والألماني ليو فروبنيوس (Leo Frobenius (1938-1873 .
كذلك نالت النظرية اللغوية التاريخية في القرن التاسع عشر شعبية واسعة، فقد عرض بوسلايف مبادئ الدراسة التأصيلية للأساطير في مؤلفه «الملامح التاريخية للأمثال والفنون الشعبية الروسية» (1861) كما عرض أناتولي أفاناسف مختلف النظريات التي طرحتها المدرسة الأسطورية في مؤلفه «نظرة السلاف الشاعرية إلى الطبيعة» (1866-1869)، وكان أثر هذه المدرسة كبيرا في توسيع مفهوم علم الأساطير وعنايتها بالتراث الشعبي والأساطير الهندية والإيرانية والألمانية والكلتية (السلتية) والسلافية القديمة،إضافة إلى الأساطير اليونانية والرومانية الكلاسيكية. كما طرحت مسألة شعبية الفن ووضعت أسس الدراسة المقارنة لعلم الأساطير والفنون الشعبية.
تقلص الاهتمام العلمي بالأساطير مع ازدهار نظرية النشوء والتطور في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنه عاد إلى الأضواء مع مطلع القرن العشرين على يد علماء الأنتروبولوجية واللغات، وتبع ذلك دراسات نفسية معمقة وتطوير مناهج علم الاجتماع والأنتروبولوجية والدراسات الفلسفية والتاريخية. وأكدت الدراسات الدينية أنه لايمكن فهم «الإلياذة» على أفضل وجه إلا بالنظر إليها على أنها رواية لتاريخ مقدس، ولايمكن تفسيرها حرفياً. وكان للتفسير العقلاني rationalistic للأسطورة أنصاره منذ القدم وإن تنوعت أشكاله ومذاهبه، وهي تفترض جميعها وجود منظومة محددة للفكر الإنساني نتجت منها النصوص الأسطورية، وما التفسيرات المجازية والرمزية إلا أمثلة على ذلك، لأن المجاز قابل للتكيف تماماً بعد وضوح الفكرة، مع أن الأسطورة عادة لاتمثل الأفكار الحقيقية. وهناك باحثون كثر يعزون وجود الأسطورة إلى عامل الخوف، ومنهم دافيد هيوم D.Hume البريطاني، ويمكن أن يدخل هذا العامل في نطاق التفسير العقلاني إذا ما أقر أثر منظومة الوظائف النفسية في هذا المجال. ولكن الشاعر الإنكليزي وليم بليك W.Blake والفيلسوف الألماني جورج هامان G.Hamann يرفضان التركيب العقلاني لفكرة «الدين الطبيعي» أي الدين الذي يفترض أن يكون عاماً للبشر كافة، في حين يؤكد شلنغ في مؤلفه «مدخل إلى علم الأساطير» (1856) وجود «المطلق» في الأسطورة معبراً عنه بوجه أو بآخر، بيد أن هذا التعبيريشتمل على بعض التناقضات، ومن واجب الفلسفة أن توفق بينها كي تعيد إلى «المطلق» وحدته التي تستعصي على الفهم. ويرى شلنغ أيضاً أن الأسطورة رواية شفوية يجب حل طلاسمها من أجل الوصول إلى مغزاها، وهو يربط الأسطورة باللغة والمجاز، ويرى أنها تترجم الصلة بين التشخيص الفني في القصة والرغبة في التعبير عن شيء ما. وقد كان اهتمام شلنغ بما وراء الطبيعة مثار جدل كبير واكبته دراسات رومنسية كثيرة أكدت أثر العاطفة في إبداع الأسطورة ووجدت في الأسطورة تعبيراً عن التجربة الإنسانية مع الطبيعة.
احتلت الدراسات المقارنة منذ عصر الإبداعية مكانة مهمة في دراسة الأساطير مع أنها بدأت قبله بكثير، وفي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين توصل الباحثون إلى إيجاد الكثير من السمات المشتركة بين أكثر من تراث، ووجد المتأخرون منهم أنهم مضطرون إلى مراعاة أعمال من سبقهم في هذا المضمار، كما أن الدراسات الفلسفية التي تبحث في وظائف الأسطورة تفترض وجود عناصر قابلة للمقارنة في الأساطير المختلفة. فقد وجد مانهاردت في التراث الشعبي عامة منطلقاً لدراسة نشأة الأسطورة ووظائفها، وحاول في مؤلفه «الأسطورة الدنيا» Lower Mythology جمع أكثر المعطيات تجانساً في التراث الريفي الشعبي، تلك التي ظن أنها قد تكون أساسا لنشأة الأساطير. ويعد العالم البريطاني جيمس فريزر (J.Frazer (1941-1854 والشقيقان غريم والأمريكي ستيث تومبسون Stith Thompson من أكثر جامعي التراث الشعبي شهرة في العالم.
أما عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس M.Mauss فيرى أن للأسطورة وظيفة اجتماعية شاملة كما هو واضح من الرموز الدينية التي تشتمل عليها، وأنه لايجوز الانتقاص من أثرها في المجتمع. في حين يؤكد عالم الأنتروبولوجية البريطاني برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942)Bronislaw Malinowski ضرورة الأسطورة للمجتمع لأهمية الوظائف التي تؤديها فيه، وخاصة المجتمع البدائي، فهي تفسر العادات والأخلاق والذرائع في تلك المجتمعات ونظرتها الجمالية والدينية والمؤسسات التي قامت عليها. وقد اشتهرت هذه النظرية باسم «الوظيفية» Functionalism أو «النفعية» ومبدؤها أن لكل عادة أو تقليد أو شعيرة في المجتمع وظيفة حيوية أو نفعاً يجب إتمامه، وهي جزء من آلة المجتمع. ويعطي علماء الأنتروبولوجية في كل من بريطانية والولايات المتحدة الأمريكية وظيفة الأساطير أهمبة كبيرة، من حيث كونها مرآة تعكس العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب.
كذلك كان للأسطورة مكانة خاصة عند علماء النفس، وقال سيغموند فرويد إن لها ارتباطاً وثيقاً باللاشعور، وإنها تعبير غريزي عن الرغبات المكبوتة، وهي تظهر إلى الوجودعندما تتاح لها الشروط المناسبة. ويعتقد فرويد أن الأسطورة ترتبط بالنفسية الطفولية للإنسان. ويخالف كارل يونغ أستاذه الرأي مع تأكيده رمزية الأسطورة وارتباطها باللاشعور، إلا أنها ترتبط باللاشعور الناضج في حياة الإنسان النفسية وباللاوعي الجماعي، فالأسطورة في رأي يونغ تتألف من صور أصيلة ترمز إلى الحكمة والنضج، وتنبع من دوافع نفسية ثابتة تتكرر في حياة الإنسان وتحضه على التفكير في الكائن الأعلى، وفي طبيعة الإنسان التي تنشد الخلود. وينطلق يونغ في رؤيته هذه من نفسية الجماعة، ومن كون الأسطورة وسيلة تعلم وتعليم في المجتمع تتناقلها الأجيال شفاهاً، وهو يؤكد في هذا المجال دور الأسطورة في الأدب والفن ويسلط الأضواء على العلاقة الوثيقة بين علم النفس والفن والأدب، ويرى أن لجوء الأديب والفنان إلى عالم الأساطير يمنح تجربتهما قوة التعبير، ويماثل الأساطير بالتاريخ الذي يستقي الكاتب منه شخصياته، كما أن الأنماط والصور الأسطورية نفسها ليست إلا نتاج خيال مبدع يحتاج إلى ترجمة لغوية. ويثير يونغ بذلك مسألة توسط اللغة بين الأدب والأسطورة، وكل ظاهرة أسطورية قي رأيه هي ظاهرة ثقافية تنحو نحو المثالية، ولايكون لها معنى إلا إذا كانت لها منفعة دينية.
أما الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي لوسيان ليفي ـ برول Lucien Levy-Bruhl فيطرح في مؤلفه «العقلية البدائية» La mentalité primitive نظرية جديدة عن أصل الأسطورة، وهو يعزوها إلى التفكير البدائي السابق للمنطق، ويرى أن هذا التفكير يرتكز على ما يعرف من ظواهر لم يجد لها تفسيراً منطقياً. في حين يطرح جيمس فريزر نظرية أخرى هي نظرية التطور الثقافي التاريخي للأسطورة، ويوجز في كتابه «السحر والدين» تطور الشعوب نفسياً في ثلاث مراحل تقوم جميعها على الاعتقاد بقدرة الإنسان على التحكم بقوى الطبيعة، وأولى تلك المراحل السحر القائم على السببية الزائفة، ثم الدين ثم العلم القائم على السببية الحقيقية، وكل أسطورة ليست إلا ترجمة مبالغاً فيها لطقس من طقوس السحر القديم أو عبادة من نوع ما. وقد لاقت هذه النظرية قبولاً واسعاً من علماء الاجتماع والأنتروبولوجية وغيرهم، ومنهم مالينوفسكي صاحب نظرية الوظيفية ، وكذلك عالم الاجتماع الفرنسي جورج دوميزيل الذي طبق أسلوب المقارنة في إثبات العلاقة بين الأسطورة واللغة والتنظيم الاجتماعي. ويرى العالم الروماني مرسيا إلياد (Mircea Eliad (1990-1907 أن الأسطورة حدث ديني يروي قصة مقدسة وأحداثاً جرت في الزمن الأول، وهي تصف مختلف الانحرافات الدرامية لكل ما هو مقدس في العالم. وينفي إلياد عن الأسطورة كل ماهو غير ديني، ويدعو إلى التفريق بين الروايات الصحيحة والروايات المغلوطة في المجتمعات التي ماتزال الأساطير حية عندها، لأن الروايات الصحيحة تحكي كل ماهو مقدس وخارق فعلاً، في حين تتحدث الروايات المغلوطة عن أشياء دنيوية وإن كانت شخصياتها مقدسة، أما الخرافات فتتحدث عن حوادث لم تستطع أن تبدل شيئاً من الطبيعة الإنسانية وإن كان لها تأثيرها في العالم.
يرى الناقد الكندي نورثروب فراي (Northrop Frye (1991-1912 أن الأدب انعكاس للأسطورة وأن الطبيعة منبتها، وهو يربط في كتابه «الأسطورة والمجتمع» (1976) بين الطبيعة والأسطورة والأدب وأثرها كلها في المجتمع، وقد أصبح لآرائه شأن بين الدارسين. فالأسطورة في رأيه محاولة لرؤية الطبيعة من منظور إنساني، والعلاقة بينهما تخضع لنظام محكم متكامل ونظرة شمولية إلى عالم تُمثِّل فيه الآلهةُ الطبيعةَ من منظور إنساني، ويصور فيه الإنسان وأصله وقدره وقدراته من منظور الطبيعة. وهذه المزاوجة بين الطبيعة والشكل الإنساني تصورها الأسطورة بالمقابلة والتشبيه، فهي توازن بينهما وتبرز أوجه الشبه بأسلوب جدلي. ويرى فراي أن الأساطير تختلط بالأدب في كل الحضارات المعروفة، والفرق بين الأسطورة والأدب هو فارق السياق الزمني وليس البنية، والعلاقة بينهما علاقة شكل لامضمون، وأن النمط الأدبي لايأتي من الحياة بل من التراث الذي كان أسطورة في الأصل. وهذا ما نادى به توماس ستيرنز إليوت[ر] أيضا في مقولته: «إن أدب عصر ما هو امتداد للتراث الذي يبدأ من هوميروس وينتهي عند ذلك العصر». غير أن فراي لم يقف عند العموميات التي استند إليها إليوت بل عمل على تحديد طبيعة الروابط بين التراث والأدب، وقال إنها تنشأ من المبادىء الأساسية لبنية الأسطورة، وهي التي تؤلف خلفية بنية الأدب، وتتحول من بنية بسيطة إلى كلام إبداعي مغلف بنسيج لغوي، ومع ذلك فإن الأسطورة تظل أوسع مدى من الأدب، وتشتمل على أشياء كثيرة إلى جانب البنية الأدبية، ويبدو أن فراي أراد من كلامه هذا سد ثغرة في نظريته، في الوقت الذي بدأت فيه البنيوية[ر] structuralism تتلمس طريقها في الخمسينات من القرن العشرين في مجالات الأدب واللغة، وسط تقاليد أدبية راسخة بنى عليها فراي آراءه التي أحلته مكانته بين معاصريه. ومع ذلك فقد كان موقف فراي على طرفي نقيض من أنصار البنيوية، وهي نظرية عامة تهدف إلى دراسة أي ظاهرة على أنها مركبة من عناصر، وكل عنصر منها يحدد مكانة العناصر الأخرى ووظائفها، وتؤلف كل هذه العناصر في مجموعها تركيباً معقداً يسمى البنية. وقد احتلت هذه النظرية مكانة مرموقة في أكثر العلوم الإنسانية، وخاصة اللسانيات والنقد وعلوم النفس والاجتماع والأنتروبولوجية. ومن رواد هذا المذهب عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي ـ شتراوس (Claude Lévi-Strauss (...-1908 الذي بحث إمكانية تطبيق طرائق الدراسة البنيوية على الأساطير بالتفتيش عن أوجه الشبه بين أساطير مختلف شعوب العالم، ثم تحديد الروابط المنطقية التي تربط بعضها ببعض. ويزعم البنيويون أن الأسطورة حية في الأدب وتتمتع بأصالة أزلية وقدسية يتوق الإنسان إلى بلوغها وتمثلها ليسترجع أصالته من خلالها. ويرون أن الأسطورة كانت ميداناً لعمليات منطقية لاشعورية تؤكد النظرة الإجمالية للحياة الإنسانية ومظهرها العالمي، وأن اللغة هي المحور الذي تتمحور الأسطورة حوله، وأن وضع نموذج للأسطورة يؤدي إلى جمودها والحد من قدراتها. وهم يرفضون فكرة الاقتصار على ربط الأسطورة بالفكر البدائي(برول) وباللاوعي الجماعي (يونغ) وبالطبيعة (فراي) وبالدين (مرسيا إلياد) لاعتقادهم أن تحديد نشأة الأسطورة يضع حداً لحياتها. ويدحض شتراوس ما جاءت به المدارس المذكورة منطلقاً من مبدأين اثنين، أولهما: أن التسلسل الزمني لأحداث الأسطورة وشخصياتها غير المألوفة يتعارض مع مضمون الأسطورة وما تهدف إليه، إذ يمكن توقع حدوث كل شيء في الأسطورة، ولايخضع تتابع الأحداث فيها لقاعدة من قواعد المنطق أو الاستمرار. ومع أن الأساطير تبدو عشوائية التركيب فإنها تتوالد بشخصياتها وتفصيلاتها في أماكن مختلفة من العالم. وأما المبدأ الثاني: فهو أن زمن الأحداث في الأسطورة موغل في القدم، ومع ذلك تتداخل هذه الأحداث فيما بينها وتبدو متصلة بالماضي والحاضر والمستقبل، وهذا يعني أن للأسطورة طبيعة تشبه طبيعة اللغة، وهو ما يفسر علاقة الأسطورة بالبنيوية. إذ لايتضح مغزى الأسطورة من العناصر المفردة التي تتركب منها، بل من الصور المجملة لتلك العناصر، تماما كالبنية اللغوية. وأن ما يميز الأسطورة من غيرها كونها حكاية يمكن لمن يشاء أن يرويها وأن يوجزها أو يطيل فيها بعبارات مختلفة، إذ لا أهمية للشكل هنا مع ضرورة المحافظة على تسلسل الموضوعات الرئيسة فيها. كما أن ترجمة الأسطورة ونقلها من لغة إلى لغة لا يطرح أي مشكلة من المشاكل التي تعترض ترجمة نص أدبي، لأن أهمية الأسطورة لاتنبع من أسلوب النص أو طريقة السرد أو ضبط اللغة، بل من فحوى الحكاية التي ترويها ومغزاها، وهذا ما يحل ـ كما يزعم شتراوس ـ مشكلة النص الأصلي. كذلك فإن تحليل الأسطورة إلى عناصر وإعادة ترتيبها عمودياً وأفقياً وفق مخطط يجمع بين السمات المشتركة لتلك العناصر،
يفسرالكثيرمن غوامضها. وعلى هذا النحو فإن دراسة الأساطير وفق المنحى الجديد الذي تبنته البنيوية تعتمد على عاملين أولهما: الشكل اللغوي للأسطورة، أي طريقة عرضها (رواية شفوية متناقلة، أو نص ديني مكتوب، أو نص أدبي أو شعر أو غير ذلك) وتفرعاتها (النسخ المختلفة للأسطورة الواحدة)، وثانيهما: الرمز أو المغزى الذي تهدف إليه الأسطورة، ولايمكن إدراك ذلك إلا بالموازنة بين أساطير الحضارات المختلفة. فلكل أسطورة كيانها الخاص ولكل منها مغزاها الذي يتصل بمنبتها، ولايمكن فهمها إلا عن طريق بنائها اللغوي، مع تأكيد نظرتها الإجمالية ومظهرها العالمي في الحياة الإنسانية.